التجربة السنغافورية .. بقلم: د. حسام يوسف

حتى مطلع الستينات كانت سنغافورة، تلك الجزيرة الصغيرة النائية التي لا تتجاوز مساحتها 710 كم فقط، لا يسكنها سوى الفقراء المعوزين فقد كان دخل الفرد آنذاك لا يتجاوز 500 دولار سنوياً، والبنية التحتية متهالكة، وبلا موارد اقتصادية واضحة، مجتمع معظمه أمي عاش لسنوات طويلة في معاناة وقهر تحت الاحتلال البريطاني، ورغم ذلك قفز هذا الدخل الهزيل خلال عقود بسيطة إلى 30 ألف دولار، وهو يعد من ضمن الدخول الأعلى في العالم حالياً.

ولكن ما سر هذا التقدم المذهل غير المتوقع،  حيث تحتل سنغافورة حالياً مراكز متقدمة على معظم المؤشرات الاقتصادية والاجتماعية العالمية.. يكمن السر كما قال كوان يو أول رئيس وزراء لسنغافورة، والذي بقي في منصبه 31 عاماً، ويلقبونه بباني سنغافورة الحديثة: «اصنعوا الإنسان قبل أي شيء، ووفروا المرافق والخدمات للمواطن، ثم اجعلوه يستخدمها بطريقة حضارية ونظيفة، وأعيروا التفاصيل الحياتية اليومية كل الاهتمام». وحول آلية تحقيق هذه الطفرة، قال، لقد كنا نجتذب المهارات من جميع مناطق العالم، ونستقدم علماء يتحدثون اللغة الإنجليزية، حيث إننا من خلال هؤلاء الأخصائيين المهرة، وبفضل تعاونهم معنا حققنا أكبر نجاح.

أما عدد السكان الذي يبلغ حالياً نحو 3 .4 مليون نسمة فقط، فلقد كانت سنغافورة خلال مرحلة بناء الدولة، تؤمن بأن كل مولود جديد يأتي في مرحلة نموها الاقتصادي يشكل عائقاً أمام تطورها ويعرقل التنمية، لذلك تبنت نظاماً حازماً لتحديد النسل، حيث لم تتجاوز نسبة زيادة السكان 2% في حقبة السبعينات، ما جنبها كارثة الانفجار السكاني، ولكن ما أن انطلق الاقتصاد السنغافوري بقوة وظهرت بوادر الانتعاش، والحاجة إلى مزيد من الأيدي العاملة المؤهلة، حتى غيرت الدولة سياستها السكانية باعتماد برامج جديدة تهدف إلى تحفيز المواطنين لزيادة النسل، ورصدت لذلك آلاف الدولارات.

وعن تعيين الموظفين، فإنه يتم من خلال مسابقات ومناقشات واختبارات علنية ومناظرات عامة مفتوحة للجميع بمنتهى الشفافية لاختيار الشخص المناسب.

إن سنغافورة حالياً تعد من أكثر بلدان العالم نظافة، وأمناً، ومبانيها تطاول، بل وتتفوق على ناطحات السحاب بنيويورك، كما تحولت إلى أنشط مركز بحري في العالم، وثالث أكبر موقع لتكرير البترول، والصناعات التحويلية، كما اجتذبت أكثر من 700 مؤسسة أجنبية و60 مصرفاً تجارياً، إضافة إلى بورصة مزدهرة لتبادل العملات، إنها تجربة تعد الأهم في العالم، يجب أن ننظر اليها بعين المراقب، خاصة وأن واقعها الاقتصادي، والاجتماعي قديماً يتشابه مع واقعنا العربي.

Exit mobile version