عن عمر يناهز المائة عام رحل رائد الأعمال الخيرية ورجل الأعمال المعروف الشيخ محمد إبراهيم السبيعي- رحمه الله- في يوم الجمعة الموافق الثامن عشر من شهر أغسطس الماضي, ويعتبر الراحل من أبرز رجال الأعمال والمؤسسين للقطاع الخيري غير الربحي في المملكة, وسطر في حياته نموذجاً رائعاً للإيثار والوقوف بجانب المحتاجين ودعم المشاريع الخيرية ودور القرآن بالإضافة لتشجيع العلم بتأسيس وتنظيم المسابقات العلمية؛ منها جائزة الشيخين: محمد، وعبدالله السبيعي، للتفوق والبحث العلمي.
مولد الشيخ محمد السبيعي
ولد الشيخ محمد في عنيزة عام 1333هـ، وقرأ نصف القرآن الكريم فيها على يد الشيخ عبدالعزيز الدامغ” -رحمه الله- وحرص على الدراسة والتعلم من خلال مواصلة الدراسة بمدرسة الفلاح بمكة المكرمة، واستجاب لرغبة عمه بترك المدرسة والانخراط في العمل بالدكان, وتوفي والده “إبراهيم” في المدينة المنورة في شهر شعبان لعام 1344هـ؛ حيث كان يعمل مع أكبر قادة الملك عبدالعزيز، طيب الله ثراه، أما والدتهم فهي “نورة بنت ناصر العماش” من محافظة البدائع بالقصيم، وهي من أسرة متدينة ومتعلمة توفيت عام 1404هـ.
قرر الفتى اليافع محمد السيبعي التوجهَ إلى مكة المكرمة مع عمه “ناصر”، وكان هذا الاختيار باب خير ورزق له؛ فقد كانت مكة المكرمة آنذاك ملتقى التجار من أنحاء العالم؛ حيث كما هو معروف يتوافد إليها الحجاج والمعتمرون، إضافة إلى قربها من ميناء جدة.
كفاح واجتهاد في بواكير العمر
حفلت بدايات الشيخ السبيعي – رحمه الله- بالمثابرة على طلب الرزق والبحث عن أنصاف الفرص ليتحول من حالة الكفاف والعدم إلى مرحلة الكفاية وهو يعول أسرته الصغيرة بعد وفاة والده, حيث عمل ساقياً يجلب الماء لدى عمّه مقابل أجر زهيد لكي يساعد ابن الثلاثة عشر عَامَاً أسرته، وبعد عِدَّة أشهر ترك هذا العمل وبدأ البحث عن عمل آخر أكثر ربحية، فتوجه للبناء مقابل بضعة قروش إلى أن توسط له أحد معارفه وهو إبراهيم الفريح – رَحِمَهُ اللَّهُ – ليعمل في قصر الملك عبدالعزيز على وظيفة مشرف عمال بمرتب ريال مجيدي واحد في اليوم؛ (يساوي 22 قرشاً), وامتهن محمد السبيعي مهن عديدة منها مهنة طباخ لمدة سنة و10 أشهر، وتعلم القيادة والخياطة التي لم يستطع خلالها شراء ماكينة خياطة لارْتِفَاع سعرها, كما عمل دلالاً لبيع السجاد من خلال الطواف بالشوارع, إلى أن جاء عام 1349هـ يحمل البشرى ومكافأة الصبر والعصامية ليجد لنفسه وظيفة حكومية (مفتش طريق) مهدت له الطريق للانطلاق.
(مفتش طريق).. والطموح والتجارة
كانت للشيخ محمد إبراهيم السبيعي- رحمه الله- روحاً وثابة في العمل والطموح مما أهله في عام 1349هـ للعمل في وظيفة حُكُومِيّة بمسمى (مفتش طريق) وكان راتبها مغرياً آنذاك إذ يبلغ حوالي ثلاثين ريالاً، إِضَافَة إلى امتيازات عديدة منها المأكل والمشرب والمسكن، وحينها قرر (محمد) إحضار والدته وأخيه عبدالله للإِقَامَة معه, وحين أمضى في الوظيفة أربع سنوات عاد به الحنين والطموح للتجارة مُجَدّدَاً، وعاد إلى مَكَّة المكرمة واشترك مع سليمان بن غنيم أحد تجار مَكَّة في التجارة، حيث كان ابن غنيم يرغب في زيارة أَقَارِبه وأهله بالمنطقة الشرقية فاتفق معه عن طريق عمه ناصر على شراكة وأن يتقبل الثَّانِي بموجبها ما في دكان ابن غنيم من أقمشة وعقل وغتر مقابل 950 ريالاً، مع أنها لا تساوي أكثر من 500 ريال إلا أن السبيعي وَافَقَ لقناعته بأهمية هذه الشراكة، وعزمه أن تكون بداية انطلاقة في عالم التجارة وقرر ابن غنيم أن يُبقي شريكه “محمد” في مَكَّة وينتقل هو إلى الرياض؛ ما جعل محمداً يستدعي أخيه عبدالله للشراكة التي كانت بدايتهما.
مهنة الصيرفة وتأسيس بنك البلاد
اكتست شراكة السبيعي مع سليمان بن غنيم بروح المحبة والوفاء, لذا استمرت 28 عاماً, حتى تم حلها بمنتهى السلاسة في عام 1382هـ, ليبدأ مع شقيقه عبدالله رحلة عمل موفقة في مجالات عديدة كالصرافة إلى جانب التجارة بأمانة وصدق، وقد اكتسب الشيخان من خلال إقامتهما في الحجاز أفقاً واسعاً واطلاعاً كبيراً على ثقافات الشعوب وطباعها وكثير من عاداتها, وعمل الشيخان في مهنة (الصيرفة)، واستمر عملهم في هذا المجال، إلى أن وصل بهم الأمْر إلى المساهمة الفاعلة في إنشاء أحد أحدث البنوك السعودية اليوم وهو (بنك البلاد).
مفهوم الشراكة في العمل الخيري
تعتبر مؤسسة محمد وعبد الله إبراهيم الخيرية من أميز المؤسسات الخيرية المانحة مؤسسة والداعمة لتأهيل المشاريع, وهي مسجلة في وزارة الشؤون الاجتماعية برقم (22)، وتُعنى بالخدمات الاجتماعية والصحية والإغاثية التعليمية والثقافية والتطويرية وكافة وجوه البرِّ والإحسان داخل المملكة العربية السعودية وفق الأولويات، ضمن الضوابط الشرعية، والأنظمة المرعية، انطلاقاً من شرط الواقفين: الشيخ محمد بن إبراهيم السبيعي، وشقيقه الشيخ عبد الله بن إبراهيم السبيعي، من خلال عمل مؤسسي، وفريق عمل مؤهل، يقوم بدعم المؤسسات والجمعيات والمكاتب الخيرية العاملة في الميدان، وتحقيق مفهوم الشراكة في العمل الخيري.
وتعمل المؤسسة الخيرية مع رصيفاتها بتكامل وتجانس تام في دعم أعمال البر وبناء الفرد والمجتمع وتطوير العمل الخيري وتحقيق التنمية المستدامة من خلال بيئة مؤسسية محفزة و فريق مؤهل.
منهج الشيخ السبيعي في العمل الخيري
انتهج الشيخ السبيعي – رحمه الله- مع أخيه عبدالله أسساً مهمة لترسيخ العمل الخيري عبر العمل المؤسسي والقنوات التي تعزز الاستفادة الكاملة للمستهدفين وتؤكد احقيتهم في الدعم وإكمال مشاريعهم, ومن تلك الأسس:
- العمل خلال الشراكة مع الجهات العاملة في تطوير ودعم العمل الخيري دون الدخول في العمل التنفيذي.
- دعم المشاريع التي تخدم قطاعات العمل الخيري آخذين بعين الاعتبار دوام وعظم الأجر، وكثرة المنفعة للمستفيد، وموافقة المشاريع لخطة المؤسسة الإستراتيجية.
- دعم الجهات التي لا يوجد عليها إشكالات أمنيه أو شرعية أو إدارية أو مالية؛ وذلك بعد التحري والتأكد من أهلية الجهة واستحقاقها للدعم أو الشراكة وفق معايير علمية تحقق الجودة في النتائج مع متابعة الأعمال و تقويمها
- التأكد من موثوقية الجهات التي تتعامل معها، وتمتعها بالوضوح والشفافية، والعمل المؤسسي.
- يكون الصرف على المشروعات والبرامج حسب الموازنات المعتمدة.
- تشارك المؤسسة الخيرية إعلامياً لأجل تقديم نماذج من الأعمال الخيرية.
- تلتزم المؤسسة بصرف الزكاة في مصارفها الشرعية حسب الفتوى المعتمدة لديها.
الأبناء على خُطى الوالد
للشيخ محمد السبيعي- رحمه الله- ثلاثة من الأبناء هم إبراهيم، وناصر، وعبدالعزيز, وهم على خُطى أبيهم حيث طلبوا من المحبين له والراغبين في نشر تعازي التأبين في الفقيد عبر الصحف، بتحويل قيمة الإعلان إلى حساب الجمعية الخيرية لرعاية الأيتام (إنسان).