في قلب حي منفوحة، أحد أعرق أحياء مدينة الرياض، يقف مسجد القبلي شامخًا كشاهدٍ على التاريخ العريق الممتد لأكثر من ثلاثة قرون. المسجد الذي يروي بجدرانه حكاية من أصالة العمارة النجدية وتفاصيلها التراثية الدقيقة، أصبح اليوم جزءًا من مشروع الأمير محمد بن سلمان لتطوير المساجد التاريخية، ليواصل رسالته الروحية والعمرانية بعد تطويره وفق أعلى معايير الترميم التي تحافظ على الهوية وتواكب متطلبات العصر.
ويتوسط مسجد القبلي حي منفوحة التاريخي، أحد أقدم أحياء العاصمة السعودية الرياض، ويعود تاريخ بنائه إلى عام 1100هـ، ليحمل في جنباته إرثًا معماريًا وروحيًا عمره أكثر من 300 عام. وفي عام 1364هـ، أمر الملك المؤسس عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود -طيب الله ثراه- بإعادة بناء المسجد، ليظل شاهدًا على مراحل تطور مدينة الرياض وعراقتها. ويتميز المسجد بموقعه الاستراتيجي، حيث يعد الأقرب لقصر الإمارة في ذلك الوقت.
الطراز المعماري للمسجد يعكس جوهر العمارة النجدية الأصيلة، والتي ترتكز على البناء باستخدام الطين وتوظيف المواد الطبيعية المتوفرة في البيئة المحلية. هذا الأسلوب المعماري الفريد يُظهر قدرة الهندسة النجدية على التكيف مع طبيعة المناخ الصحراوي، مع إبراز ملامح الثقافة المحلية من خلال التفاصيل العمرانية والزخرفية.
قبل بدء أعمال الترميم، بلغت مساحة المسجد نحو 642.85 مترًا مربعًا، ومن المقرر أن تصل بعد تطويره إلى 804.32 مترًا مربعًا، ليستوعب 440 مصلٍ، في إطار الحفاظ على الهوية التاريخية مع تعزيز الجانب الوظيفي لخدمة المصلين.
أحد أبرز التحديات التي واجهها مشروع تطوير المسجد تمثل في ندرة الأخشاب المناسبة في المناطق المحيطة. ومع ذلك، حرص القائمون على المشروع على توفير أنواع الأخشاب المطلوبة، مع تنفيذ عمليات معالجة دقيقة تضمن الحفاظ على جودتها ومتانتها على المدى الطويل. تشمل هذه العمليات “التقويم والتنكيس”، وهي خطوات ضرورية للتخلص من عصارة الخشب قبل استخدامه، بالإضافة إلى معالجته بمواد تحميه من التلف والحشرات.
ويعتمد المشروع أساليب تقليدية أصيلة في تزيين الخشب، حيث تُستخدم أدوات حادة لنقش الزخارف والأنماط التراثية، بهدف إحياء الموروث العمراني والحفاظ على الهوية البصرية للمساجد التاريخية. كما يسعى المشروع إلى تعزيز الوعي المجتمعي بأهمية العناية بالمساجد التاريخية، باعتبارها جزءًا أصيلًا من هوية المملكة وتراثها الحضاري.
مسجد القبلي هو واحد من 30 مسجدًا تاريخيًا تشملها المرحلة الثانية من مشروع الأمير محمد بن سلمان لتطوير المساجد التاريخية، والتي تغطي 13 منطقة في مختلف أنحاء المملكة. وتوزعت المساجد على النحو التالي: 6 مساجد في منطقة الرياض، 5 مساجد في منطقة مكة المكرمة، 4 مساجد في منطقة المدينة المنورة، 3 مساجد في منطقة عسير، ومسجدان في كل من المنطقة الشرقية والجوف وجازان، ومسجد واحد في كل من الحدود الشمالية وتبوك والباحة ونجران وحائل والقصيم.
ويهدف المشروع إلى تحقيق التوازن بين الحفاظ على الهوية العمرانية الأصيلة وتطبيق معايير البناء الحديثة، لضمان استدامة هذه المساجد وأداء دورها الديني والاجتماعي والثقافي لعقود قادمة. ويتولى تنفيذ المشروع شركات سعودية متخصصة في ترميم المباني التراثية، بالتعاون مع مهندسين سعوديين لضمان الالتزام بأدق تفاصيل الهوية المعمارية لكل مسجد.
جدير بالذكر أن المرحلة الثانية من المشروع جاءت استكمالًا للمرحلة الأولى التي انطلقت في عام 2018م، والتي تضمنت إعادة تأهيل وترميم 30 مسجدًا تاريخيًا في 10 مناطق بالمملكة، في إطار رؤية شاملة للحفاظ على المساجد التاريخية كجزء من هوية المملكة.
وينطلق مشروع الأمير محمد بن سلمان لتطوير المساجد التاريخية من أربعة أهداف رئيسية: إعادة تأهيل المساجد التاريخية لتكون مهيأة للعبادة والصلاة، استعادة الأصالة العمرانية، إبراز البعد الحضاري للمملكة، وتعزيز المكانة الدينية والثقافية لهذه المساجد. كما يسهم المشروع في إبراز العمق الثقافي والحضاري للمملكة، بما يتماشى مع مستهدفات رؤية السعودية 2030، عبر الحفاظ على الخصائص العمرانية التراثية والاستفادة منها في تصميم المساجد الحديثة.