لوحظ في الآونة الأخيرة تلوث بصري وبيئي يتمثل في انتشار نشاط المشاتل الزراعية التجارية بصورة كبيرة على الشوارع الرئيسة متوسطة الأحياء، حتى غدت منظراً مألوفاً عند الجميع، ويبدو من الوهلة الأولى أن احد الأهداف من هذه الأنشطة هو نشر ثقافة الاخضرار والإزهار في المجتمع عبر بيع الشتلات والزهور وبذورها، لتحول المنازل والطرقات لبيئة تضخ الأكسجين نقياً في الأحياء، وتساهم في رفد الحدائق العامة والخاصة بكل ما تحتاج إليه، وتم التصديق لهذه الممارسات التجارية وفق اشتراطات صحية وبيئية محددة لكي تحافظ على حياة الإنسان والحيوان والبيئة.
ومع مرور الزمن تزايد أعدادها فاختلت المعايير التي وُضعت لها فصارت مصدراً للقبح بدلاً من الجمال، وقد ضُربت القوانين واللوائح المنظمة لها بعرض الحائط حتى بدا للعامة والمتسوقين أن هذا النوع من التجارة ليس له مشرّع أو منظم لأن كل مشتل يعمل على حسب هواه وكأنه خارج مظلة القانون..! خصوصا إذا نظرنا إلى أنشطة أخرى تقع على نفس الشارع ويطبق بحقها أدق أنواع الرقابة والاشتراطات البلدية والصحية وتظهر بمظهر متكامل في صالات مغلقة.
وما يزيد الأمر تعقيداً أن هذه المشاتل تقع في الشوارع الرئيسة للأحياء ما جعلها منبعاً للتلوث البيئي والتشوه البصري؛ فهناك عدد منها يقع تحت هيكل معدني تغطيه أقمشة ممزقة وأصبح بعضها مصدراً للمياه الراكدة والفوضى العارمة أمام المحل وخلفه، كل هذه الملوثات البصرية قد تجاور محلات تجارية أخرى في غاية الأناقة والجمال، ما يؤثر في المنظر العام سلباً، فضلاً عن الأضرار الصحية التي تسببها هذه المشاتل.
الزائر بعض هذه المشاتل سيلحظ قبل ولوجه داخلا شكل الهياكل المهترئة التي صُنعت بطريقة موغلة في العشوائية وأشعة الشمس تتسلل خلسة للداخل، سيقع نظره على مستنقع مياه آسنة وأسراب من الحشرات البعوض وأدوات مبعثرة هنا وهناك، وإذا امتد به الفضول لما خلف المشتل سترى عجباً، خلف المشتل مباشرة مسكن العمال، وفور دخول المشتل سوف يستقبل الزائر شخص هو مجرد بائع لا يعرف سوى اسم وثمن شتلاته، وغير مُلم تمام الإلمام ما الذي يُزرع تحت أشعة الشمس وما الذي يزرع داخل المسكن، ومتى يُزرع هذا وذاك وكيفية غرسه ومتى يتم ريّه بالماء وما نوع السماد المناسب، ولا يعلم أن بعض تلك النباتات والزهور والشتلات تصبح سامة حينما يختل أحد العناصر اللازمة لزراعتها، وعند حواره مع الباعة ستجده لا يعرف مدى خطورة تجارته على المجتمع إذا لم تتم بالصورة السليمة والصحيحة؟
وحتى تعاملهم مع المبيدات المركبات الكيمائية تعامل سطحي ويعتقدون أنهم لا يسببون أضراراً للناس لأنهم يبيعون ما لا (يؤكل)!!
المهندس عبدالله الكثيري أكد أن هذا النشاط بعشوائية ممارسته أفرز آثاراً سالبة أصبحت خطراً مهدداً صحياً وبيئياً على المناطق المحيطة بها، نتيجة لتجمع برك المياه الراكدة والآسنة تحت أصيص المشتل وخلفه الذي يضج ويعج بكل الملوثات البيئية وتفوح منه الروائح الكريهة، التي تزكم الأنوف وتسبب إزعاجاً لأهل الحي الذين اضطربت حياتهم من دون علمهم بمثل هذه الملوثات، فضلاً عن تجمعات الحشرات التي تنتقل مع الشتلات وأسمدتها المباعة إلى المنازل والقصور والحدائق العامة، ما يشكل خطراً أكبر عندما تكون الشتلة قصيرة في متناول أيدي الأطفال، هذا بجانب الملوثات الكيميائية التي تكون عالقةً في سطح أوراق النباتات وجزوعها كأثر متبق.
موضحا أن الذين يعملون في هذا المجال عمالة غير مدربة وغير مؤهلة وغير متخصصة، وقد تكون عمالة غير نظامية وسائبة قادتهم أقدارهم لهذه المهنة، وبالتالي لا يستطيعون تقديم المشورة الفنية الصائبة والإرشاد التوعوي السليم لعملائهم، وتتعاظم هذه المشكلة عندما يتولون مهمة صيانة ومتابعة شؤون الحدائق (خاصة وعامة)، وذلك لأنهم يدخلون المنازل ويتجولون فيها ويعرفون مداخلها ومخارجها، ما يشكل خطراً أمنياً لها، خصوصاً أن متابعة أمر الحدائق يكون بصورة دورية ومستدامة ما يحتم وجود العامل بالمنزل فترات متكررة، مشددا على أن هذا العامل لا يقل أهمية عن ذلك الرجل الذي يقف في الصيدلية ليصرف الدواء ويحدد مواعيد تناوله للمريض خصوصاً إذا عرفنا ان جل تلك الأدوية تستخلص من تركيبات نباتية وعشبية وقطفات الزهور ونحو ذلك.
وبين الكثيري أن من يمتهن هذه المهنة هو من يقرر مواقع الحدائق أوقات تسميدها وريّها ويتعامل مع سموم ومبيدات قاتلة شديدة الخطورة تحتاج إلى أيد متخصصة وماهرة ومدربة ومدركة حجم السميات التي تحتويها المبيدات، ولخطورتها الشديدة صدرت بشأنها قرارات من المنظمات الدولية وكذلك من السلطات المحلية تنص على عدم تداول واستخدام بعضها عطفاً على تأثيرها في الإنسان والبيئة.
وسلط الكثيري الضوء على بعض هذه المنتجات التي تشكل خطرا على صحة الإنسان حيث بين أن مبيد (ألتيمك) يعد في مقدمتها حيث تكمن سميته في مادته الفعالة (Aldicarb)، ومبيد البارثيون، والفوسفوميدون وغيرهما من المبيدات الممنوعة في المملكة.
وأضاف أن هناك مبيدات مصنفة (تصنيفا ثانيا) وتشمل كثيرا من المبيدات المستعملة وخصوصاً المسماة (النيماتودية) التي تشكل خطورة كبيرة مثل الفايديت والنيماكور والركبي والفيوريدان، وشدد على ان هذه ضرورة منع استخدام هذه المركبات معا في المنازل الأمر الذي لن يقل خطورة إذا ما استخدمت في هذه المشاتل أو بقيت أو وصلت المنزل مع الشتول والأشجار المباعة، وطالب الكثيري بوجود شخص مختص ومهني إذا تم استخدام هذه المواد او بعض المبيدات الحشرية مثل اللانيت والأيكاتين والسوبراسيد.. وبين أن بعض نباتات الزينة تعد سامة وقالتة متى ما وصلت إلى فم الإنسان وخصوصاً الأطفال.
وأضاف أن هنالك نباتات تسبب الحساسية نتيجة للمس أو الاستنشاق أو التعرض لعصارتها، موضحا أن هناك قرارا قد صدر بعدم زراعتها في الحدائق العامة، وفي نفس الوقت تتولى المشاتل ومن يديرها بتوزيع هذه النباتات السامة في المنازل والحدائق الخاصة بالمنازل، ما يفاقِم الخطر أكثر ما لو كانت في الحدائق العامة، ومثال لذلك نبات يسمى الدلفة (Nerum oleanader) وهو من نباتات الزينة الجميلة ذات الأزهار الجاذبة ولكن يكمن السم في أوراقها التي تؤدي إلى السمية الشديدة للإنسان والحيوان وتسبب تسمم عضلة القلب وتحتوي أيضاً على المركب الجليكوسيدي أوليندرين الذي يسبب الغثيان ونقص في ضربات القلب وشلل في الجهاز التنفسي الذي يؤدي للوفاة.
واستغرب الكثيري من وجود كميات كبيرة من النباتات والبذور مجهولة المصدر نسبة لقلة تكلفة إنتاجها مؤكدا أنها لا تخلو من ملوثات ميكروبية ما يساعد في نشر بعض المايكروبات مثل المايكروب السبحي والمايكروبات القولونية E.Coli التي تسبب النزلات المعوية التي تنتج بتلوث أيدي الأطفال في الحدائق.
واستغرب اختصار لاشترايطات واجراءات المشاتل في صفحة واحدة تحت لائحة بعنوان: (المشاتل.. خطوات وإجراءات) تتضمن تعريف المشتل واشتراطات الموقع والشروط التصميمية وفي ذات الوقت تخصص الدول الغربية دليلاً كاملاً مكوناً من أكثر من 100 صفحة A4 تكون مرجعاً ومرشداً لمن يريد ممارسة هذا النشاط حتى لا تضع للاجتهاد الشخصي حيزاً وللعبث والتخبط عنواناً على البيئة والصحة.
وتابع أنه إذا ما قام المهتم بمقارنة بسيطة بين المواصفات أو المعايير القياسية في الولايات المتحدة الأمريكية (american standard for nursery stock) سيجد أن الفرق كبير وشاسع، إذ يجد هناك جهات مختصة اختصاصاً كاملاً تقوم بوضع الدليل الإرشادي لمثل هذه الممارسات التجارية مثل جمعية (american nursery and landscape Association) التي وضعت كتاباً تشريعياً يقع في 113 صفحة ليكون مرجعاً ومرشداً، ويتكون 13 قسماً كل قسم يحمل شرحاً وافياً عن المضمون، وتمنى من أمانة منطقة الرياض أن تستفيد من مثل هذه الدراسات وتطبيقها على أصحاب المهنة حتى نخلص لبيئة سليمة ومثالية خالية من الملوثات. وعن أبرز الأسباب التي أدت إلى انفلات وضع المشاتل أكد الكثيري أن تشتت المهام بين الجهات الرسمية أدى إلى تراخ في عملية متابعة هذه المشاتل ومراقبتها ومعرفة مدى تقيدها بالأنظمة واللوائح المعدة لذلك، وبالتالي فإن وجودها وسط الأحياء السكنية لم يخضع لتقويم ودراسة عمرانية متخصصة لمعرفة مدى خطورة ذلك على صحة السكان.