بناء بلا إذن.. والنظام بين العدالة والرحمة
د. عبدالحكيم بن عبدالله الخرجي
في منظومة العدالة الشرعية والمدنية، لا تترك الأنظمة فراغًا، ولا تسمح للفوضى أن تتسلل من أبواب النية الطيبة أو الجهل أو الاستعجال. والنصوص الواردة في نظام المعاملات المدنية والمستمدة من الشريعة الإسلامية – وتحديدًا المواد من 651 إلى 653 – تمثل مزيجًا فريدًا من التنظيم الشرعي والقانوني والمرونة الإنسانية، حين يتعلق الأمر بمن يبني أو يغرس في أرض ليست ملكه.
تبدأ المادة 651 بتأكيد قاعدة واضحة: لا يجوز لأحد أن يبني أو يغرس في أرض غيره دون إذنه، وإن فعل ذلك، فالمالك هو صاحب الحق الأصيل، وله أن يطلب الإزالة على نفقة المعتدي، إلا إذا لحقت الإزالة ضررًا بالأرض، فتقوم علاقة المنفعة حينها على أساس التعويض والتقدير القضائي.
ثم تأتي المادة 652، فتغوص أعمق في الواقع، حيث أن حسن النية لا يُنجي من الأثر القانوني لكنه يُلطفه. فإذا بنى شخص أو غرس بمواد من عنده وهو يظن أن الأرض ملكه، ثم ظهر العكس، فللمحدث الخيار ب إزالة ما أحدثه إن لم يكن هناك ضرر على الأرض أو عدم الازالة، فإن كان هناك ضرر أو لم يختر المحدث الإزالة خير بعدها المالك بين ثلاث أمور اما دفع قيمة المواد وأجرة العمل أو مبلغا يعادل ما زاد في قيمة الأرض فإن لم يستطع الدفع فله أن يطلب تمليك الأرض للمحدث بسعر عادل.
أما المادة 653، فتقدم بُعدًا إنسانيًا بالغ الرقي، حين تنظر إلى النية الحسنة للجار وتمنح القاضي سلطة تقديرية مرنة. فيمن بنى على جزء من الأرض الملاصقة لأرضه، فهنا لا يُهدَم البناء فورًا، بل يُمكن للقاضي أن يوازن بين مصلحة الطرفين ويجوز للمحكمة – عند تحقق شروط العدالة – إلزام الجار بالتنازل عن الجزء المقام عليه البناء مقابل تعويض عادل.
وتكتمل الصورة في هذا التنظيم، لتُرسّخ مفهوم التعايش العقاري، وتحقق العدالة، وتُمثّل نموذجًا للتوازن الدقيق بين حماية الحقوق الأصلية من جهة، وبين عدم إهدار ما بُني بحسن نية من جهة أخرى. إنها تشريعات ليست جامدة، بل حية، تنطق بعدل وتنبض بمرونة، وتُعطي القاضي مساحة للحكم بإنصاف وفقاً للظروف الواقعية، لا النص فقط في عالم يموج بالنزاعات العقارية، تقدم هذه المواد حلاً حضاريًا راقيًا، يؤمن أن لكل حجر قيمة، ولكل نية وزن، ولكل صاحب حق ملاذ.
محامي وعضو هيئة حقوق الانسان