وسط مشهد يُجسّد تحولاً لافتاً في بوصلة السوق العقارية السعودية، كشفت بيانات البورصة العقارية عن مفارقة بارزة خلال يوليو 2025 عن زيادة لافتة في المساحات المتداولة يقابلها تراجع حاد في القيمة الإجمالية للتداولات، في إشارة واضحة إلى تبدّل أولويات المشترين وتوجهات السوق نحو وحدات وعقارات ذات تكلفة أقل.
فبحسب البيانات الرسمية، تم خلال يوليو الماضي تداول أكثر من 350 مليون متر مربع من العقارات، مقارنة بنحو 218 مليون متر مربع فقط في يوليو من العام السابق 2024، أي بزيادة تقارب 60% في إجمالي المساحات المتداولة. إلا أن المفارقة الأبرز كانت في انخفاض إجمالي قيمة التداولات من 40 مليار ريال في يوليو 2024 إلى 25 مليار ريال فقط في يوليو 2025، ما يعكس انخفاضاً بنسبة 37.5% في القيمة الإجمالية، على الرغم من تضاعف حجم المساحات.
سوق يتغيّر.. فماذا يحدث؟
الانخفاض في قيمة المتر الواحد المتداول بنحو أكثر من 60% يعكس توجه السوق نحو فئات عقارية جديدة ذات تكلفة أقل، وربما تقع في أطراف المدن أو في مناطق ناشئة، بدلاً من المناطق المركزية التي عادةً ما تحتل صدارة القيم السوقية.
وهذا التحول لا يبدو عابراً أو مؤقتاً، بل يحمل دلالات أعمق:
1. عودة إلى الأساسيات:
المستهلكون باتوا يبحثون عن المساحة قبل الموقع، وهو ما قد يشير إلى توسع الطلب على الأراضي والوحدات السكنية في الضواحي أو المناطق الأقل تكلفة، في ظل ارتفاع تكاليف المعيشة والضغوط التمويلية.
2. تراجع المضاربات:
الانخفاض في القيمة مقابل المساحة قد يعكس تراجعاً في المضاربة العقارية التي كانت تُشعل الأسعار في السنوات السابقة، مع اتساع الرقابة وتطبيق الأنظمة الحديثة التي تهدف إلى تعزيز الشفافية وتوجيه السوق نحو النشاط الحقيقي.
3. ارتفاع في الطلب السكني الحقيقي:
تشير الزيادة في المساحات إلى وجود طلب فعلي على التملك أو التطوير، لا سيما من قبل فئات الشباب والعائلات الباحثة عن حلول سكنية ملائمة وبتكلفة مقبولة، ما يتماشى مع أهداف برامج الإسكان الوطنية.
ما بين التوسع الجغرافي وانخفاض الأسعار
لا يمكن قراءة هذه البيانات دون الإشارة إلى التغيرات في السياسات العقارية، والاهتمام الحكومي المتزايد بتوفير بدائل سكنية متنوعة بأسعار في متناول مختلف شرائح المجتمع.
ويُحتمل أن يكون جزء من هذا التغير مرتبطاً بتوسع مشاريع الإسكان الجديدة في مناطق مثل الرياض الكبرى، مكة، الشرقية، وأطراف المدن الاقتصادية، التي توفر أراضي واسعة بأسعار منخفضة، مما يرفع حجم المساحات المتداولة، لكن بأسعار لا تُضاهي تلك الخاصة بالمناطق المركزية.
التغيير قد يكون صحياً ومطلوباً
يعتبر مختصون في الشأن العقاري أن ما يحدث اليوم قد يكون انعكاساً طبيعياً لتطور السوق ونضج مستهلكيه، إضافة إلى كونه ناتجاً عن التأثيرات الاقتصادية التي أعادت ترتيب الأولويات لدى كثير من المستثمرين والمواطنين على حد سواء.
ويرى خبراء العقار أن هذا التحول “يؤشر إلى بداية مرحلة أكثر توازناً في السوق، حيث يتم التركيز على الاحتياج الحقيقي بدلاً من السعي وراء الأرباح السريعة الناتجة عن المضاربات”.
ويؤكدون أن “اتجاه السوق نحو أراضٍ أو وحدات منخفضة السعر يعني أن الطلب بات أكثر عقلانية، ما يساعد على تخفيف الضغوط على أسعار العقارات في المدى الطويل”.
مستقبل السوق: هل نشهد إعادة تسعير شاملة؟
رغم أن البيانات تعكس تحوّلاً واضحاً، إلا أن السؤال الكبير يبقى: هل هذه بداية لمرحلة إعادة تسعير شاملة في السوق العقارية؟
الإجابة ليست واضحة تماماً بعد، لكن المؤشرات الحالية توحي بأن السوق في طريقه إلى التخلص من بعض التشوهات السابقة، مع دخول أنظمة أكثر شفافية، واعتماد المنصات الرقمية مثل البورصة العقارية التي توفر بيانات حية وواقعية تساعد في اتخاذ قرارات شراء واستثمار أكثر رشداً.
فرصة للمشترين والمطورين
بالنظر إلى هذا التغيير، قد يكون الوقت مناسباً للمشترين الذين ينتظرون الفرصة المناسبة للدخول إلى السوق، خاصة في المناطق التي تشهد وفرة في الأراضي وانخفاضاً في الأسعار.
في المقابل، يُطلب من المطورين العقاريين إعادة النظر في استراتيجياتهم، والتركيز على المنتجات التي تناسب احتياجات السوق الحقيقية، خصوصاً في الفئات المتوسطة والدنيا التي تشكل النسبة الأكبر من المجتمع.