بينما تتسابق دول العالم إلى تدشين مشاريع المدن الذكية، يتصاعد الجدل حول جدواها: هل هي قفزة حضارية لا مفر منها لمواجهة تحديات الحاضر وصناعة مستقبل أكثر استدامة، أم رفاهية حضرية تستنزف الموارد وتخدم فئة محدودة من المجتمع؟ ما بين مؤيد يرى فيها ضرورة استراتيجية، ومعارض يعتبرها إنفاقًا مبالغًا فيه على التكنولوجيا، يظل الجواب مرهونًا برؤية شاملة للتجارب العالمية، وما تحمله من فرص وتحديات.
إن المدن الذكية ليست مجرد أحياء متصلة بشبكات إنترنت عالية السرعة أو مبانٍ مزودة بأحدث الكاميرات، بل هي منظومات متكاملة تعتمد على الذكاء الاصطناعي وإنترنت الأشياء وتحليل البيانات الضخمة لإدارة الموارد بكفاءة، وتحسين جودة الحياة، وتقليل الهدر في الطاقة والمياه، وتعزيز الأمن والخدمات. في هذه المدن، تصبح إدارة المرور آلية، وإجراءات الخدمات الحكومية رقمية بالكامل، والبنية التحتية مراقَبة لحظيًا، وحتى المساحات الخضراء تُصمَّم وفق بيانات مناخية دقيقة.
ضرورة لا خيار
لكن مع بريق هذه الصورة، ينقسم الرأي العام عالميًا. فالمؤيدون يؤكدون أن التوسع الحضري المتسارع، وتفاقم تحديات الأمن المائي والغذائي والمناخي، يجعل من المدن الذكية ضرورة لا خيارًا. فهي قادرة على خفض الانبعاثات الكربونية، وحل أزمات المرور، وترشيد استهلاك الطاقة، ما ينعكس إيجابًا على البيئة والاقتصاد. في المقابل، يحذر المعارضون من أن هذه المشاريع باهظة التكاليف، وقد توجه لخدمة فئات محدودة دون باقي السكان، بينما تحتاج بعض الدول إلى إعطاء الأولوية للصحة والتعليم والبنية التحتية الأساسية قبل الاستثمار في تقنيات فائقة التطور.
مشروع نيوم
وتتنوع التجارب العالمية في هذا المجال، من مشروع “نيوم” في السعودية الذي يسعى إلى إنشاء مدينة ذكية بالكامل تعتمد على الطاقة المتجددة وتدمج الابتكار في كل تفاصيل الحياة، إلى مدينة “سونغدو” في كوريا الجنوبية التي وُلدت من الصفر لتكون نموذجًا صديقًا للبيئة، لكنها واجهت تحديًا في جذب السكان، وصولًا إلى مدينة “مصدر” في أبوظبي التي انطلقت كمنصة للعيش المستدام، لكن مسيرتها واجهت صعوبات تتعلق بالتكلفة والتوسع.
تحسين جودة الحياة
اقتصاديًا واجتماعيًا، تحمل المدن الذكية وعودًا كبيرة، إذ تخلق فرص عمل جديدة في قطاعات التكنولوجيا والهندسة وإدارة البيانات، وتجذب الاستثمارات الأجنبية، وترفع كفاءة الخدمات الحكومية عبر التحول الرقمي، فضلًا عن تحسين جودة حياة المواطنين بأنظمة ذكية للنقل والطاقة. إلا أن هذه الوعود تقابلها تحديات جسيمة، أبرزها التكلفة الباهظة لبناء البنية التحتية الذكية، ومخاطر انتهاك الخصوصية في ظل الاعتماد الكثيف على البيانات، بالإضافة إلى خطر اتساع الفجوة الرقمية بين من يستطيع الوصول إلى الخدمات الذكية ومن لا يستطيع، فضلًا عن ضرورة تصميم هذه المدن بما يضمن مرونتها أمام التغيرات التقنية المتسارعة.
تحقيق التنمية المستدامة
ويرى خبراء التخطيط الحضري والعمراني، أن “المدن الذكية ليست رفاهية، بل أداة استراتيجية لتحقيق التنمية المستدامة، لكن نجاحها يعتمد على التخطيط المتدرج الذي يوازن بين التكنولوجيا واحتياجات المجتمع”. أما الدكتورة ليلى منصور، الباحثة في الاقتصاد الحضري، فتؤكد أن “الاستثمار في المدن الذكية يجب أن يتزامن مع إصلاحات هيكلية في التعليم والصحة والاقتصاد، حتى لا تتحول هذه المدن إلى جزر معزولة عن واقع المجتمع”.
وفي ظل تزايد التوجه العالمي نحو هذا النموذج الحضري، يبدو أن مدن المستقبل ستصبح النمط السائد خلال العقود المقبلة. لكن نجاحها لن يُقاس بعدد الأبراج الذكية أو أجهزة الاستشعار المنتشرة في شوارعها، بل بقدرتها على تحقيق التوازن بين الابتكار والعدالة الاجتماعية، وجعل الحياة أكثر استدامة وازدهارًا لجميع السكان.