الأوقاف التنموية: حوكمة لإطلاق الأصول الخاملة
د. خالد بن سعد الحبشان
تُعد الأوقاف من الأصول الاقتصادية الاستراتيجية الهامة في المملكة العربية السعودية، لما تحمله من قيمة مالية كبيرة، إضافة إلى بعدها الاجتماعي والثقافي العميق المرتبط بالتراث الإسلامي. وفقاً لبعض الدراسات غير الرسمية، يُقدّر حجم الأوقاف في السعودية بما يتراوح بين 200 إلى 300 مليار ريال سعودي، وهي أموال ضخمة تظل في كثير من الأحيان غير مستثمرة أو مستثمرة بطريقة تقليدية تقلل من قيمتها الاقتصادية. رغم أن هذه التقديرات ليست رسمية تمامًا، إلا أنها توضح مدى الإمكانات الهائلة التي يمكن للأوقاف أن تسهم بها في تعزيز النمو الاقتصادي وتنويع مصادر الدخل الوطني.
شهدت المملكة خلال السنوات الماضية جهودًا متسارعة لتطوير قطاع الأوقاف، حيث عملت الهيئة العامة للأوقاف على تحديث الأطر التنظيمية، وتعزيز الحوكمة، وتحفيز الاستثمار، بما ينسجم مع أهداف رؤية السعودية 2030 الطموحة التي تسعى لتنويع الاقتصاد وتحقيق تنمية مستدامة. ورغم هذه الإصلاحات الإيجابية، لا تزال نسبة كبيرة من الأصول الوقفية غير مستثمرة بشكل فعال، أو تدار بأساليب تقليدية قد تحد من قدرتها على تحقيق عوائد مالية مجزية. وعليه، يُعد استثمار الأوقاف الخاملة فرصة استراتيجية لتعزيز الناتج المحلي الإجمالي، ودعم برامج التنمية الاجتماعية والاقتصادية عبر مصادر تمويل مستقرة وطويلة الأجل.
من الناحية الاقتصادية، تشير تقارير بعض الجهات الاستشارية إلى أن تفعيل الأوقاف واستثمارها بشكل محترف يمكن أن يساهم بما يتراوح بين 2% إلى 5% من الناتج المحلي الإجمالي على المدى المتوسط، وهذا يعتمد على توسيع رقعة الأوقاف التنموية وربطها بالمشروعات الاستثمارية الحيوية. هذه النسبة قد تبدو متوسطة لكنها تعني خلق فرص عمل جديدة، زيادة في حجم الاستثمارات المحلية، وتحسين الاستقرار المالي للمشروعات التنموية، فضلاً عن تحفيز القطاعات الخاصة على المشاركة في مشاريع الوقف.
تحولت الأوقاف في بعض الدول إلى أدوات تمويلية مهمة تدمج الأهداف الاجتماعية مع عوائد اقتصادية مستدامة، وهو النموذج الذي تسعى السعودية لتطبيقه عبر إنشاء صناديق وقفية استثمارية تتمتع بالشفافية والاحترافية في الإدارة. تعمل الهيئة العامة للأوقاف على إطلاق مثل هذه الصناديق التي تخضع لإفصاح دوري، وتُدار عبر شركات متخصصة في إدارة الأصول، وهو ما يعزز من قدرة الوقف على استقطاب الاستثمارات وتحقيق عوائد مالية مستقرة.
إلى جانب ذلك، يكتسب دعم الأوقاف الصغيرة والعائلية أهمية متزايدة، إذ تساهم هذه الأوقاف في توسيع القاعدة الاستثمارية للقطاع وتحسين مساهمته في الاقتصاد الوطني. لذلك، يُعد تطوير إطار تشريعي وتنظيمي خاص بالوقف العائلي خطوة مهمة لتشجيع دمجه ضمن المنظومة الوطنية، مع الحفاظ على خصوصيته وأحكام الشريعة، ما يضمن استدامته وفعاليته في المدى الطويل.
ومن أبرز المقترحات التي ستسهم في دفع عجلة الاستثمار الوقفي:
• إطلاق تصنيف وطني للأوقاف يعكس مستوى الحوكمة والكفاءة الاستثمارية، مما يشجع الشفافية والتنافسية ويضمن دعم الأوقاف المتميزة.
• إنشاء محكمة أو دائرة قضائية وقفية متخصصة لتسريع فض المنازعات وتوفير بيئة قانونية مستقرة تثري الثقة بين الواقفين والمستثمرين.
• تحفيز إقامة صناديق وقفية مشتركة بالتعاون مع شركات حكومية رائدة مثل أرامكو وروشن لتعزيز الكفاءة والاستدامة المالية.
• إصدار تشريع خاص بحوكمة الوقف العائلي يضبط التسجيل والمعايير المالية والإدارية لضمان دمجه ضمن الاقتصاد الرسمي.
تسخير هذه الأدوات والآليات لا يقتصر فقط على إدارة الأوقاف بشكل أكثر فعالية، بل يفتح آفاقًا جديدة لتعزيز تمويل التنمية الاجتماعية والاقتصادية، وخلق فرص استثمارية مجدية طويلة الأجل تساهم في تنويع مصادر الدخل الوطني وتحقيق الاستقرار المالي. فالأوقاف التنموية ليست مجرد أموال محفوظة، بل هي محرك اقتصادي حقيقي يثري الاقتصاد السعودي إذا ما أُديرت بحكمة واحترافية.
ختامًا، يمثل دمج الأوقاف في منظومة الاستثمار الوطني نقلة نوعية تعكس تطور الرؤية الوطنية نحو اقتصاد متوازن ومستدام، قادر على تحقيق الأهداف التنموية الطموحة برؤية استراتيجية واضحة تعتمد على تكامل القطاعين العام والخاص والحوكمة الرشيدة
مستشار في حوكمة الشركات وتنظيم الاستثمار العقاري
@AlhabshanDr