ترميز العقارات في السعودية: تشريع مبتكر ودور اقتصادي واعد
د. خالد الحبشان
يشهد العالم تحولًا كبيرًا في طريقة التعامل مع الأصول العقارية، حيث أصبح مفهوم ترميز العقارات باستخدام تقنية البلوكشين من أبرز الاتجاهات الاستثمارية والاقتصادية الحديثة. يقوم هذا المفهوم على تحويل الملكية العقارية أو جزء منها إلى رموز رقمية قابلة للتداول، بحيث يتمكن المستثمر من شراء حصص صغيرة في عقارات ضخمة لم يكن من الممكن الوصول إليها من قبل. هذا التحول لا يمثل فقط ابتكارًا تقنيًا، بل يعد أداة اقتصادية استراتيجية يمكن أن تغيّر شكل سوق العقارات وتفتح آفاقًا واسعة أمام التمويل والاستثمار.
الفائدة الجوهرية من الترميز تكمن في قدرته على جعل السوق أكثر شمولًا وعدالة. ففي النموذج التقليدي، كان تملك العقار يحتاج إلى رأس مال ضخم، ما يجعل الاستثمار حكرًا على فئة محدودة من كبار المستثمرين. أما من خلال الترميز، فيمكن لصغار المستثمرين الدخول بمبالغ بسيطة نسبيًا، وبالتالي يتحقق نوع من الديمقراطية الاستثمارية التي ترفع من مشاركة الأفراد وتزيد عمق السوق. إضافة إلى ذلك، فإن الأصول المرمّزة تتميز بقدرتها على التداول في أسواق ثانوية رقمية، ما يمنح العقار سيولة لم تكن متاحة في السابق، ويتيح للمستثمر الخروج من استثماره بسهولة أكبر.
تجارب دولية
التجارب الدولية تعكس نجاح هذا النموذج. فقد أطلقت دبي أول منصة ترميز عقاري في المنطقة بالتعاون بين الجهات التنظيمية والبنوك المحلية، لتتيح شراء حصص مرمّزة ابتداءً من 2000 درهم فقط. هذه التجربة وضعت دبي في صدارة الدول التي دمجت العقار بالاقتصاد الرقمي، وفتحت أسواقها لمستثمرين من مختلف أنحاء العالم عبر بوابات إلكترونية آمنة ومنظمة. أما في قطر، فقد أعلن مركز قطر المالي عن مشاريع تتجاوز قيمتها 500 مليون دولار لترميز أصول عقارية متعددة الاستخدام، بينما في الولايات المتحدة وأوروبا ظهرت منصات عديدة تقدم صناديق عقارية مرمّزة قابلة للتداول، مما يعزز توجهًا عالميًا نحو اعتماد هذه التقنية كجزء من النظام المالي.
في السعودية، يمكن القول إن الانطلاقة الأولى قد بدأت بالفعل، حيث أعلنت بعض الشركات التقنية بالتعاون مع مطورين محليين عن تنفيذ أولى الصفقات العقارية المرمّزة خلال العام 2025. هذه الخطوة وضعت المملكة على خريطة الابتكار العقاري، خاصة أن الجهات التنظيمية مثل هيئة السوق المالية والهيئة العامة للعقار والبنك المركزي السعودي (ساما) بدأت بدراسة الأطر اللازمة لتقنين هذا النشاط وضمان توافقه مع التشريعات المالية القائمة. ومن المنتظر أن يلعب السجل العقاري الموحد دورًا مهمًا في ربط الملكية الرقمية بالملكية الفعلية، وهو ما سيمنح الثقة والشفافية للمستثمرين المحليين والدوليين على حد سواء.
جذب الاستثمارات
الدور الاقتصادي لترميز العقارات لا يقتصر على جذب الاستثمارات فحسب، بل يتعدى ذلك إلى تحفيز التطوير العمراني وتسهيل تمويل المشاريع الكبرى. فالمطور العقاري الذي كان يعتمد على التمويل البنكي أو البيع على الخارطة أصبح قادرًا الآن على طرح أصوله كرموز مرمّزة، ما يتيح له الوصول إلى قاعدة أوسع من المستثمرين بتكلفة أقل ومرونة أعلى. كما أن هذا النظام يعزز من قدرة الدولة على تنويع مصادر الدخل ضمن إطار رؤية السعودية 2030، عبر تحويل القطاع العقاري إلى منصة استثمارية أكثر جاذبية وسيولة.
ورغم هذه المزايا، يبقى التحدي الأكبر في وضع إطار تشريعي متكامل يحدد بوضوح حقوق والتزامات الملاك، ويفصل بين الأصول المرمّزة كأوراق مالية خاضعة لرقابة هيئة السوق المالية، وبين التداولات غير المنظمة. كما أن الجانب المتعلق بالأمن السيبراني وحماية بيانات المستثمرين يحتاج إلى حلول مبتكرة لضمان سلامة الأصول الرقمية. لكن المؤشرات الحالية تدل على أن المملكة تدرك هذه التحديات وتعمل على معالجتها بخطوات مدروسة، تمامًا كما فعلت عند إدخال منتجات استثمارية جديدة سابقًا.
يتضح مما سبق أن ترميز العقارات في السعودية ليس مجرد مبادرة تقنية، بل مشروع اقتصادي متكامل يحمل وعودًا كبيرة للمستثمرين والاقتصاد الوطني على حد سواء. ورغم أن التجربة ما زالت في بداياتها، إلا أن الدعم التشريعي والتنظيمي المتوقع، مع رغبة المملكة في تعزيز مكانتها كمركز مالي واستثماري إقليمي، يجعل من المرجح أن نرى في السنوات القليلة القادمة سوقًا عقاريًا رقميا متكاملًا يسهم في رفع الشفافية، توسيع قاعدة الاستثمار، وتنويع مصادر النمو. ومن هنا تأتي أهمية هذا التحول كخطوة استراتيجية نحو مستقبل عقاري واقتصادي أكثر كفاءة وتنافسية. مستشار في حوكمة الشركات وتنظيم الاستثمار العقاري
@AlhabshanDr