تعيش السوق العقارية في المملكة العربية السعودية لحظة فارقة في تاريخها الحديث، حيث تشهد سلسلة إصلاحات غير مسبوقة تستهدف إعادة رسم المشهد العقاري، ومعالجة الخلل المزمن بين العرض والطلب، وضبط أسعار العقارات التي شهدت ارتفاعات غير مبررة خلال السنوات الماضية. ولا تمثل هذه الخطوات التي وصفتها شركة الراجحي المالية في أحدث تقرير لها بالحاسمة والجريئة، مجرد إجراءات آنية لاحتواء الأسعار، بل هي جزء من رؤية إصلاحية شاملة تفتح الباب أمام سوق أكثر توازنًا واستدامة، خصوصًا في العاصمة الرياض التي تعد بؤرة النشاط العقاري وأحد أسرع الأسواق نموًا في المنطقة.
رؤية إصلاحية شاملة
بدأت ملامح هذه الإصلاحات بالتوجيهات الحكومية الصادرة في مارس 2025، والتي استهدفت تعزيز المعروض السكني في شمال الرياض على مساحة تتجاوز 81 كيلومترًا مربعًا. كما تضمنت الخطة توفير ما بين 10 آلاف و40 ألف قطعة أرض سنويًا خلال السنوات الخمس المقبلة، على أن تُطرح عبر منصة رقمية مخصصة بأسعار لا تتجاوز 1500 ريال للمتر المربع، وهو ما يمثل نقلة نوعية في تمكين المواطنين من الحصول على أراضٍ بأسعار عادلة.
لاحقًا، واصل مجلس الوزراء خطواته عبر إقرار نظام جديد يسمح للأجانب بتملك العقارات في مناطق محددة اعتبارًا من يناير 2026، مع استثناء مكة المكرمة والمدينة المنورة من هذا النظام، حيث تُطبق شروط خاصة تراعي خصوصيتهما. كما شهدت الفترة نفسها تعديل رسوم الأراضي البيضاء بإضافة شرائح تصل إلى 10% على الأراضي غير المطورة داخل النطاق العمراني، إلى جانب فرض رسوم بنسبة 5% على العقارات الشاغرة، في محاولة جادة للحد من ظاهرة اكتناز الأراضي وتعطيل استغلالها.
تأثيرات مباشرة على السوق
توقعت شركة الراجحي المالية في تقريرها أن يكون لهذه الإصلاحات تأثير فوري على السوق من خلال زيادة المعروض العقاري، وهو ما سينعكس على ضبط الأسعار والحد من الممارسات الاحتكارية. ووفق بيانات شركة Knight Frank، ارتفعت أسعار الفلل في الرياض بنسبة 48% منذ نهاية 2020، بينما قفزت أسعار الشقق بنحو 87% في الفترة نفسها، في حين ارتفعت الإيجارات بأكثر من 32% منذ 2021، ما جعل مسألة القدرة على تحمل تكاليف السكن أحد أبرز التحديات أمام الأسر السعودية.
ويرى محللون أن ضخ الأراضي الجديدة وفرض رسوم على العقارات غير المستغلة سيدفع ملاك الأراضي نحو استثمارها أو التعاون مع صناديق التطوير العقاري لتشييد مشاريع سكنية وتجارية، بدلاً من إبقائها مجمدة، وهو ما يفتح الباب أمام مرحلة أكثر حيوية ونشاطًا للسوق.
المستفيدون الرئيسيون
بحسب تقرير الراجحي المالية، هناك عدة أطراف رئيسية ستستفيد من هذه التحولات، أبرزها شركات التطوير العقاري التي ستجد فرصًا واعدة لتنفيذ مشاريع جديدة، إلى جانب شركات الأسمنت ومواد البناء التي ستواكب الطفرة الإنشائية المتوقعة. كما أن البنوك ومؤسسات التمويل العقاري مرشحة لتحقيق مكاسب مهمة مع توسع سوق الرهن العقاري، خاصة إذا تزامنت هذه الإصلاحات مع انخفاض أسعار الفائدة المتوقع خلال الفترة المقبلة.
أداء السوق المالي
رغم هذه الإصلاحات الإيجابية، شهد مؤشر قطاع العقارات في سوق تداول تراجعًا بنسبة 23% منذ أبريل 2025، بعد موجة صعود قوية قاربت 70% ما بين يناير 2023 والربع الأول من 2025. ويعود هذا التراجع في جانب كبير منه إلى حالة الترقب التي تسود أوساط المستثمرين بانتظار وضوح أكبر بشأن آثار القوانين الجديدة. ومع ذلك، فإن بعض الشركات لا تزال تُظهر مرونة في أدائها.
تنظيمات مرتقبة
من المنتظر أن تصدر هيئة تنظيم العقارات (REGA) خلال الفترة المقبلة لوائح إضافية تسهم في تعزيز استقرار السوق، ومنها تحديد المناطق المسموح للأجانب بتملك العقارات فيها، وإقرار سقف للزيادة السنوية في الإيجارات، بالإضافة إلى إصدار لائحة تنفيذية متعلقة بالعقارات الشاغرة لتفعيل الضريبة الجديدة بشكل أكثر فعالية.
فرص مستقبلية واعدة
على الرغم من تسجيل النشاط العقاري تراجعًا في الربع الثاني من 2025 بنسبة 22% على أساس سنوي و41% على أساس ربعي، وهو أدنى مستوى له خلال تسعة أرباع، إلا أن الراجحي المالية ترى أن هذه الإصلاحات ستؤتي ثمارها على المدى المتوسط إلى الطويل. إذ من المتوقع أن تحد من الأسعار المبالغ فيها، وتعزز القدرة على التملك، وتجعل السوق أكثر استقرارًا وجاذبية للمستثمرين المحليين والأجانب على حد سواء.
وتمثل هذه الخطوات الإصلاحية علامة فارقة في مسار تطور السوق العقارية السعودية. فهي تجمع بين معالجة التحديات الحالية ووضع أسس جديدة لمستقبل أكثر شفافية وكفاءة. ورغم أن السوق قد يستغرق بعض الوقت للتأقلم مع هذه التغيرات، فإن النتائج المرتقبة تبشر بمرحلة جديدة عنوانها التوازن والاستدامة، بما يخدم تطلعات المواطنين والمستثمرين ويواكب أهداف رؤية المملكة 2030.