التقنيات العقارية.. ملامح التحول القادم في سوق العقار السعودي
د. عبدالحكيم بن عبدالله الخرحي
يشهد القطاع العقاري في المملكة العربية السعودية تحولًا استثنائيًا يعكس عمق التحول الوطني الشامل الذي تعيشه المملكة في ظل رؤية 2030، حيث لم يعد التطوير العقاري مقتصرًا على البناء والتخطيط، بل أصبح مشروعًا وطنيًا متكاملًا تتداخل فيه التقنية مع التشريع، والاستثمار مع الحوكمة، والابتكار مع التنظيم. وفي قلب هذا المشهد يبرز مفهوم التقنيات العقارية (PropTech) بوصفه أحد أهم المحركات المستقبلية لإعادة تشكيل السوق العقاري السعودي، وصياغة منظومة جديدة تتكامل فيها المعلومات، والمنصات الرقمية، والذكاء الاصطناعي مع الأنظمة والتشريعات العقارية.
لقد كان القطاع العقاري لعقود طويلة من أكثر القطاعات تمسكًا بالأساليب التقليدية في الممارسة والتعامل، غير أن موجة الرقمنة التي تقودها الدولة، أيدها الله، ضمن استراتيجياتها للتحول الرقمي الشامل، فرضت واقعًا جديدًا يقوم على البيانات المفتوحة، والعقود الإلكترونية، والتوثيق الرقمي، والمنصات العقارية الذكية. وهكذا لم تعد القيمة في العقار محصورة في موقعه أو بنيانه، بل في المعلومة التي تحيط به: تاريخه النظامي، وشفافية تداوله، وكفاءة تشغيله، وقدرته على الاندماج مع أدوات التقنية الحديثة في التمويل والإدارة والتسويق.
وفقًا لتقارير الأمم المتحدة لعام 2024م، تصدّرت المملكة المرتبة الأولى في المنطقة والسادسة عالميًا في مؤشر التحول الرقمي الحكومي، وحلت الثانية ضمن دول مجموعة العشرين، كما حققت المركز الأول عالميًا في البيانات الحكومية المفتوحة والمعرفة الرقمية. هذه المؤشرات لا تعبّر فقط عن تقدم تقني، بل تؤكد أن المملكة أصبحت بيئة ناضجة وجاهزة لاحتضان التحول العقاري الرقمي، بما يواكب المستهدفات الوطنية نحو بناء اقتصاد رقمي مزدهر.
وفي هذا السياق، جاءت القمة العالمية للبروبتك (Global PropTech Summit) التي انعقدت في الرياض يومي 26 و27 أكتوبر 2025م بتنظيم من عين الرياض وبشراكة استراتيجية مع الهيئة العامة للعقار (REGA)، لتكون منصة دولية تجمع بين التشريع والتقنية والاستثمار، وتعكس المكانة التي بلغتها المملكة كأحد المراكز العالمية المؤثرة في صناعة العقار الذكي. أقيمت القمة تحت شعار «الابتكار لمستقبلٍ مستدام»، وضمّت أكثر من مائة متحدث من خمسٍ وثمانين دولة، وقد ناقشت في خمسين جلسة وورشة عمل مستقبل البيانات العقارية المفتوحة، والعقود الرقمية، والذكاء الاصطناعي في التقييم، والبناء الذكي، والاستدامة العقارية.
وأبرز ما ميز القمة هذا العام هو وضوح التوجه الاستراتيجي للمملكة نحو توطين التقنيات العقارية وجذب الاستثمارات الدولية، إذ أطلقت الهيئة العامة للعقار البيئة التنظيمية التجريبية (Sandbox) ومسرعة الأعمال العقارية ومركز بروبتك السعودية، وهي مبادرات مخصصة لتمكين الشركات الناشئة ورواد الأعمال من اختبار حلولهم التقنية في بيئة مرنة وآمنة، وقد أثمرت هذه المبادرات خلال فترة وجيزة عن توطين سبع شركات أجنبية وإغلاق جولات استثمارية تجاوزت سبعةً وثلاثين مليون ريال سعودي.
تأتي هذه الجهود ضمن مسار متكامل يهدف إلى جعل المملكة مركزًا عالميًا للابتكار العقاري، إذ تشير التقديرات إلى أن سوق التقنيات العقارية العالمي تجاوز 86 مليار دولار في عام 2024م، ويتجه إلى تخطي 133 مليار دولار بحلول عام 2032م، وهو أحد أسرع القطاعات نموًا في العالم. وتسعى الهيئة العامة للعقار إلى توجيه جزء من هذه الاستثمارات إلى الداخل السعودي عبر تشريعات مرنة، وشراكات دولية، وممكنات رقمية تعزز من تنافسية السوق المحلي.
كما أكد معالي وزير البلديات والإسكان – رئيس مجلس إدارة الهيئة العامة للعقار – في كلمته خلال افتتاح القمة، أن التقنية العقارية أصبحت أداة استراتيجية لتحريك القيمة في الاقتصاد، إذ تسهم في جعل تسويات العقارات فورية، وحسابات الضمان آلية، والاستثمار العابر للحدود أكثر سرعة وشفافية. وأشار معاليه إلى أن هذا التحول ليس تقنيًا فحسب، بل تحول في البنية المالية والتنظيمية يفتح الباب أمام استثمارات أجنبية مباشرة تُقدّر بأكثر من 100 مليار دولار سنويًا بحلول نهاية العقد، في ظل بيئة تشريعية تضمن الشفافية والأمان المالي.
لقد أصبح من الضروري أن يواكب النظام العقاري هذا التوسع بتشريعات مرنة ورقابة ذكية، فالعقود الرقمية تحتاج إلى أطر نظامية تُثبت حجّيتها القانونية، والذكاء الاصطناعي في التقييم يتطلب ضوابط تمنع تضارب المصالح أو الخطأ الخوارزمي، والمنصات العقارية الذكية تحتاج إلى اعتماد رسمي ورقابة مهنية تحافظ على ثقة المستثمر والمستهلك معًا. وهنا يبرز الدور الحيوي للمحامين والمستشارين القانونيين في صياغة النماذج القانونية الحديثة التي توازن بين الابتكار وحماية الحقوق.
ومن واقع مشاركتي في هذه القمة ممثلًا عن شركة أسيس يور للمحاماة والاستشارات القانونية، بدا جليًا أن مستقبل السوق العقاري لم يعد يقاس بحجم المشاريع أو رأس المال، بل بمدى قدرة المنظومة القانونية والتنظيمية على إدارة التحول التقني بكفاءة ومسؤولية. فكل تقنية ناجحة تحتاج إلى تشريع ناضج يضمن العدالة والشفافية، وكل سوق مزدهر يحتاج إلى حوكمة ذكية توازن بين النمو والتنظيم.
إن القمة العالمية للبروبتك لم تكن حدثًا عابرًا، بل رسالة واضحة بأن المملكة العربية السعودية تُعيد رسم خريطة العقار العالمي من الرياض؛ المدينة التي باتت اليوم عاصمة الفكر العقاري الذكي، ومنصة تجمع بين التشريع والتقنية والاستثمار في مشهد واحد. ومع تسارع هذا التحول، يبقى اليقين أن التقنية لا تُقصي الإنسان، بل تعزز دوره وتجعل قراره أكثر دقة وإنصافًا، وأن المستقبل العقاري للمملكة يُبنى بالعقل القانوني المستنير، والتقنية الواعية، والرؤية التي لا تعرف المستحيل.
@Dr_alkharji