حين يصبح المناخ هو المستثمر الحقيقي في العقار
عبدالرحمن بن علي آل قوت
لم يعد التغير المناخي قضية بيئية تُناقش في المؤتمرات الدولية أو تقارير الأمم المتحدة فقط، بل أصبح عاملًا اقتصادياً واستثمارياً حاسماً يعيد تشكيل معادلة الربح والمخاطرة في أسواق التطوير العقاري حول العالم. فالتغير في درجات الحرارة، وتزايد الظواهر المناخية القاسية، وتراجع الموارد الطبيعية، جميعها بدأت تترك أثراً مباشراً على الجدوى المالية للمشاريع العقارية، سواء من حيث التكلفة أو العائد أو التمويل.
وفي هذا السياق، لم تعد المملكة العربية السعودية استثناءً، بل أصبحت من الدول الرائدة في إدراك أهمية دمج الاستدامة في التخطيط العمراني. فاليوم، تواجه المشاريع غير المستدامة ارتفاعاً متزايداً في التكاليف التشغيلية والتأمينية نتيجة تزايد المخاطر المناخية واشتراطات السلامة البيئية. وعلى الجانب الآخر، تتجه بوصلة الطلب بقوة نحو المباني الخضراء والمشاريع الصديقة للبيئة التي تحقق كفاءة في استهلاك الطاقة والمياه وتُسهم في تقليل الانبعاثات الكربونية، وتوفر بيئة صحية ومعيشية أفضل للسكان.
هذا التحول لا يأتي فقط من وعي المستهلك النهائي الذي أصبح أكثر إدراكاً لأهمية جودة الحياة وكفاءة الطاقة، بل أيضًا من منظومة اقتصادية وتنظيمية متكاملة تقودها البنوك وصناديق التمويل والمستثمرون المؤسسون، الذين باتوا يمنحون الأفضلية للمشاريع الحاصلة على شهادات خضراء مثل LEED وMostadam. وقد أصبحت أدوات مثل التمويل الأخضر والسندات المستدامة جزءاً رئيسياً من مشهد التطوير العقاري الحديث، تمنح المشاريع المعتمدة بيئياً ميزة تنافسية ومالية ترفع من جاذبيتها الاستثمارية على المدى الطويل.
وفي ظل رؤية المملكة 2030 التي جعلت الاستدامة محورًا رئيسيًا للتنمية، تتبنى المدن السعودية الكبرى – من الرياض إلى نيوم والبحر الأحمر – مفهوماً جديداً للتطوير يقوم على المرونة المناخية والاقتصاد الدائري وجودة الحياة.
هذا التوجه لا يقتصر على المشروعات العملاقة فحسب، بل يمتد تدريجياً إلى المشروعات السكنية والمجتمعية المتوسطة، حيث تُدمج مبادئ الكفاءة البيئية في التصميم والعزل الحراري وأنظمة المياه والطاقة، بما ينسجم مع توجه المملكة لتقليل الانبعاثات وتحقيق الحياد الكربوني بحلول عام 2060.
ومع ذلك، يبقى التحدي الأكبر أمام دمج الاستدامة في المشاريع العقارية ثقافياً واقتصادياً في آن واحد… فالمطورون والمستثمرون بحاجة إلى تغيير نمط التفكير من قصير الأمد إلى طويل الأمد، ومن مبدأ «البيع السريع» إلى «القيمة المستدامة». إن حساب النجاح بالمتر المربع لم يعد كافيًا، بل يجب أن يُقاس بمدى كفاءة المشروع في استدامة موارده، وقدرته على الصمود أمام التغيرات البيئية والاقتصادية.
كما أن القطاع العقاري بحاجة إلى تعزيز المعرفة التقنية والهندسية في مجال مواد البناء منخفضة الانبعاثات، وأنظمة إدارة الطاقة الذكية، وإعادة التدوير في مواقع الإنشاء، وهو ما يتطلب تعاوناً أكبر بين القطاعين العام والخاص، والجامعات ومراكز البحث، لتطوير معايير سعودية متقدمة للبناء الأخضر تتناسب مع طبيعة المناخ المحلي واحتياجات السوق.
إن التغير المناخي ليس تهديداً، بل فرصة لإعادة تعريف مستقبل العقار في المملكة والعالم. فالسوق القادمة لن تميز بين المشاريع حسب مواقعها فقط، بل حسب قدرتها على الصمود والكفاءة والتكيف مع المناخ.
إنها الموجة الجديدة التي ستعيد ترتيب المشهد العقاري العالمي، حيث الرابح الحقيقي هو من يدرك مبكراً أن الاستدامة ليست تكلفة إضافية… بل استثمارًا في البقاء.