على الرغم من التقدم التكنولوجي الكبير الحالي الذي يؤثر في كافة مناحي الحياة، وعلى رأسها الاقتصاد، إلا أن الأخير يبقى معتمدًا بقوة على الموارد الطبيعية وفي مقدمتها المياه.
فمنذ فجر التاريخ استوطن الناس الأماكن بجوار مصادر المياه، سواء كانت أنهارا، أو ينابيع، أو واحات، أو آبارا بهدف تلبية احتياجاتهم الرئيسية سواء في الزراعة أو الاستخدامات المنزلية (شرب أو طهي وخلافه).
حول الأنهار
وتسببت حيوية المياه بالنسبة للاقتصاد على مر العصور في ظهور ما يعرف بـ”اقتصادات المياه” ويقصد بها حساب تأثيرها في معدلات النمو وتقدير تأثيرات غيابها أو شحها على الاقتصاد، بكافة أنشطته زراعية أو صناعية أو خدمية.
وتشير مجموعة “جلوبال ريسك إنسايت” إلى أنه حتى في العصر الحديث تفضل الشركات الكبرى وضع مقارها في مدن مثل “شيكاغو” عن أخرى مثل “ميشيجان” بسبب توافر المياه أو غيابها.
ولذلك يتركز 41% من سكان العالم حول الأنهار، وذلك على الرغم من تقدم البنية التحتية وأساليب إيصالها إلى المدن إلا أن التفضيلات لا تزال في استيطان المناطق القريبة من المياه، حتى في الدول المتقدمة ذات التكنولوجيا العالية.
ومع ارتفاع عدد سكان العالم إلى أكثر من الضعف خلال الخمسين عامًا الأخيرة، وتراجع الموارد المائية المتجددة بشكل نسبي، أضحى من الحيوي الوقوف على طبيعة استهلاك المياه في مختلف دول العالم وتأثير ذلك على الاقتصاد.
ووفقًا لدراسة لـ”فاو”، تقوم الصناعات المختلفة باستهلاك 59% من المياه في الدول المتقدمة، بينما لا تتوفر نسبة دقيقة للاستهلاك في الدول النامية غير أن نسبة استهلاك المياه للأغراض الزراعية والمنزلية بها تفوق الأغراض الصناعية في أغلب الدول.
ويرجع ذلك لسببين الأول الوفرة المائية التي تتمتع بها غالبية الدول المائية، إذ إن أغلبها مصنفة كدول غنية مائيًا، بما يسمح بزيادة الاستخدام للصناعة (المزدهرة في تلك الدول)، فضلًا عن كفاءة استخدام المياه نسبيًا في الدول المتقدمة.
تأثير مباشر على النمو
وتقدر نسبة المياه المستخدمة في الزراعة عالميًا بحوالي 70% من المياه العذبة (أي تلك التي لا تخضع لعمليات التحلية أو التي يعاد استخدامها)، بما يؤشر للنسبة الكبيرة التي تستهلكها الدول النامية في الزراعة إذا ما قيست بتلك المتقدمة.
ولعل هذا هو ما دفع “يونيسكو” لإصدار تحذير من أن إنتاج كيلو واحد من الأرز يستلزم استهلاك 3 أمتار مكعبة من المياه، ولذلك ناشدت المنظمة الدول التي تعاني من أزمات مائية بالابتعاد عن زراعته والاكتفاء به في الدول التي تعتمد على مياه الأمطار والفيضانات.
وتشير دراسة للبنك الدولي إلى أن الاحتباس الحراري وتقلص كمية المياه المتاحة من شأنه تكليف بعض الاقتصادات حتى 6% من الناتج المحلي، بسبب العجز عن توفير المياه للزراعة أو الصناعة أو حتى الاضطرار لنقل مصانع أو إحداث تغييرات في البنية التحتية.
وتعد دول الشرق الأوسط وإفريقيا جنوب الصحراء في صدارة الدول المهددة بخسارة نسب كبيرة من ناتجها المحلي، بحلول عام 2050 إذا لم تقم بتغييرات جذرية في أسلوب استخدام المياه لتأثير النقص على الزراعة والصناعة والصحة العامة.
وفي دول إفريقيا جنوب الصحراء تشير تقديرات البنك الدولي إلى حاجة تلك الدول إلى استثمار 3% من ناتجها المحلي سنويًا لكي تحسن من أساليب الري واستغلال المياه وبناء السدود وغير ذلك لكي تتجنب تراجعًا كبيرًا في حجم اقتصادها.
وعلى الرغم من ذلك لا تتعدى نسبة الاستثمار في المياه والتكنولوجيا المرتبطة بتخزينها واستهلاكها في دول جنوب الصحراء 0.3% من الناتج المحلي لها، بما يؤشر إلى احتمالية تصاعد الأزمات التي تعانيها في شح المياه، ويدخلها في دوامة من التراجع الاقتصادي بل والأزمات الإنسانية.
أزمة عالمية متصاعدة
وفي المقابل، فإن الدول التي عملت على تحسين استخدامها للمياه بتقليص الفاقد بنسبة 25% يتحسن الناتج المحلي فيها بنسبة 3-4% بسبب الوفرة في المياه، وهو ما حدث في جنوب أفريقيا التي تضرب بها منظمة “فاو” مثلًا.
فالدولة أقرت نظامًا جديدا للري وبرامج واسعة لتحسين استخدام المياه في المنازل والصناعات، مما نتج عنه تقليص استخدام المياه في الري من 80% في أوائل الألفية الثالثة إلى 62% عام 2016، دون تأثر المحاصيل الزراعية مع استفادة الصحة العامة والصناعة من الوفرة.
وتشير تقديرات مؤسسة “وورلد ريسورسز” إلى أن 37% من دول العالم تعاني من “ضغوطات كبيرة” على مواردها المائية، بينما يأتي الثلث في “مخاطر مقبولة” و30% في وفرة مائية، بينما تبقى 20% من دول العالم مهددة بالتراجع في ترتيب “الأمان المائي” مع الزيادة السكانية.
بل إن ثلثي سكان العالم سيصبحون مهددين بالمعاناة من نقص في المياه بحلول عام 2025، ما بين النقص العادي والشديد، لا سيما إذا ظلت معدلات النمو السكاني والاستهلاك الزراعي والصناعي وفي المنازل على حالها.
وفي الدول التي تعاني من “ضغوطات كبيرة” على المياه ترتفع نسبة استخدامها في الزراعة إلى 80% لمحاولة توفير الغذاء لسكان تلك الدول، غير أن ذلك يترك للصناعة والاستخدامات المنزلية 20% فحسب من الموارد المائية، ويؤشر إلى أزمة متصاعدة بتلك الدول.
سنغافورة والاستخدام الأمثل للمياه
وتعد سنغافورة من أكثر الدول معاناة من نقص في الموارد المائية، حيث لا توجد بحيرات في المدينة الدولة، كما لا توجد أنهار يمكن الاعتماد عليها في الري أو في الاستخدامات الصناعية.
ولعل هذا هو ما دفع الدولة الصغيرة إلى الاستثمار بكثافة في “تكنولوجيا المياه” حيث تسهم أنظمة توجيه مياه الأمطار في توفير 20% من احتياجات البلاد من المياه، ويتم استيراد 40% من ماليزيا، بينما تسهم “المياه الرمادية” (والمقصود بها المياه المعاد استخدامها بعد تنقيتها بـ30%)، وتسهم تحلية مياه البحر بـ10%.
وتنحصر دول الوفرة المائية في أوروبا وكندا، بينما تتفاوت بعض الدول داخليًا، ففي الصين فهناك بعض المناطق التي تعد ذات وفرة مائية، وكذلك الحال في الولايات المتحدة، غير أن بعض مناطق الدولتين شاسعتي المساحة تعاني نقصًا في المياه.
وعلى سبيل المثال، عانت الصين من جفاف شديد في عام 2006 أدى لإتلاف محاصيل تقدر قيمتها بأكثر من 300 مليون دولار، وأثر هذا على موارد 95 مليون صيني بما دعا الحكومة الصينية حينها لإقرار برنامج تعويضات واسع لمتضرري الجفاف.
محاولات لمواجهة الأزمة
وترصد منظمة “فاو” محاولات الدول من أجل استخدام المياه بكفاءة، وذلك باستخدام مزيج بين آليات السوق و”الدولة الراعية”، وذلك برفع أسعار المياه لمستخدمي المياه بشكل كثيف، في الوقت نفسه الذي تدعم فيه المقتصدين في استخدام المياه.
وفي هذا الإطار يشدد البنك الدولي على ضرورة الاستثمار في تكنولوجيا استخراج المياه واستغلال الأمطار وإعادة استخدام المياه وتحلية مياه البحر في ظل ارتفاع ازدياد الطلب المستمر على المياه مع الزيادة المضطردة في تعداد السكان العالمي.
وتشير الأمم المتحدة في أحد تقاريرها حول التنمية المستدامة إلى أهمية الوصول بالمياه المعاد استخدامها (الرمادية) إلى حوالي 50-60% من المياه المستخدمة في المنازل والمصانع بما يسمح بتحقيق وفورات كبيرة في المياه المتجددة ويحسن من مستويات الصحة العامة بل والنشاط الاقتصادي.
ويمكن استخدام تلك المياه في أغراض متعددة مثل التنظيف وغسل الملابس وفي الصرف الصحي، بما يعطي مساحة أكبر لا تخدم المياه النظيفة لأغراض الشرب والطهي والزراعة.
ويحذر البنك الدولي من أن استمرار تأثير نقص المياه في العديد من المناطق سيؤدي لارتفاع أسعار الغذاء، بما قد يؤدي في نهاية الأمر إلى اندلاع صراعات بين الدول بسبب نقص الموارد، لتبدو المياه عنصرًا حاسمًا ليس فقط للحياة، بل للاقتصاد و”السلام العالمي”.