تشهد مكة المكرمة خلال العقد الماضي نهضة تنموية غير مسبوقة، حوّلتها من مدينة مقدسة تستقبل ملايين الحجاج والمعتمرين إلى مركز اقتصادي وسكاني نابض بالحياة، في إطار مستهدفات رؤية المملكة 2030 التي تسعى إلى تنويع الاقتصاد وتحقيق التنمية المستدامة. ولم تعد مكة مجرد وجهة دينية، بل أصبحت بوابة استثمارية واعدة تحتضن مشروعات عملاقة تدفعها بثبات نحو المستقبل.
15% من القوى العاملة بمكة
بحسب شركة “البلد الأمين”، الذراع الاستثماري لأمانة العاصمة المقدسة، فإن مكة المكرمة تحتضن 15% من إجمالي القوى العاملة على مستوى المملكة، وتُسهم بـ30% من العمالة الإقليمية و17% من الناتج المحلي لمنطقة مكة المكرمة، وتستحوذ على 89% من الناتج المحلي للإقليم. ومع استمرار النمو السكاني المتوقع أن يصل إلى 3 ملايين نسمة بحلول 2030، تتزايد أهمية المدينة كمركز ديموغرافي واقتصادي متصاعد.
100 مليار ريال تعيد تشكيل العاصمة المقدسة
تشهد مكة تنفيذ مشروعات بنية تحتية نوعية بقيمة تفوق 100 مليار ريال، تشمل مترو مكة، مشروع “وجهة مسار”، تطوير المشاعر المقدسة، ومعالجة الأحياء العشوائية، إلى جانب شراكات مع مطورين محليين وعالميين. هذه المشاريع تعيد صياغة مستقبل المدينة، وتجعلها محورًا استثماريًا متكاملًا يربط بين المحور اللوجستي للرياض، والديني للمدينة المنورة، والثقافي والسياحي لجدة والطائف.
مع الاستعداد لاستقبال أكثر من 30 مليون حاج ومعتمر سنويًا، تتعزز مكانة مكة كوجهة عالمية في خدمات الحج والعمرة، ما يفتح آفاقًا استثمارية ضخمة في قطاعات النقل، الضيافة، الصحة، والتقنية، ويؤسس لاقتصاد حج وعمرة مزدهر.
“البلد الأمين”: بوابة الاستثمار الأبرز في المملكة
أكد الرئيس التنفيذي لشركة البلد الأمين، المهندس هتان طاسجي، أن الممكنات الاستثمارية الهائلة في مكة تعكس رؤية طموحة لتحويل المدينة إلى منصة رائدة في التنمية الحضرية والخدمات النوعية. وشدد على أهمية التعاون مع القطاع الخاص لإيجاد فرص استثمارية وتحقيق قفزات في جودة الحياة والخدمات.
نقلة حضرية نوعية.. من “قطار الحرمين” إلى “المنار”
صرّح الدكتور عمر عدنان أسرة، رئيس قسم العمارة في جامعة أم القرى، أن مشروعات النقل مثل قطار الحرمين السريع لعبت دورًا حاسمًا في تسهيل تنقل الحجاج بين مكة والمدينة، إضافة إلى تطوير شبكة الطرق والجسور. كما شهدت البنية التحتية الفندقية والسياحية نقلة نوعية مع التركيز على الفنادق الذكية والخدمات الرقمية.
وأشار إلى قفزات في قطاع التطوير العمراني مع مشروعات كبرى مثل وجهة مسار وجبل عمر، إلى جانب تنامي الاستثمارات في التجارة والتقنية وريادة الأعمال، ما يعزز تنوع الاقتصاد المحلي.
“حافلات مكة” و”النقل العام”.. حلول استراتيجية للازدحام
انطلق مشروع النقل العام بمكة عام 2012م ليكون حلًّا استراتيجيًا لتقليل الازدحام، خاصة في مواسم الحج ورمضان. ويتضمن المشروع شبكة حافلات محلية وسريعة تمتد لـ275 كم عبر 12 مسارًا، باستخدام 400 حافلة و438 محطة توقف، إضافة إلى 4 محطات مركزية و7 جسور و11 تقاطعًا ذكيًا.
وفي أكتوبر 2023م، تم تدشين الخدمات المدفوعة بسعر 4 ريالات للتذكرة مع باقات متنوعة. ويُقدّر عدد الركاب المستفيدين من الفترة التجريبية بأكثر من 100 مليون راكب.
قطار الحرمين.. الأسرع والأكبر في الشرق الأوسط
بلغت تكلفة مشروع قطار الحرمين السريع نحو 60 مليار ريال، ويُعد من أكبر مشاريع النقل في الشرق الأوسط والسادس عالميًا. يربط القطار بين مكة والمدينة عبر محطات في جدة ومطار الملك عبدالعزيز ومدينة الملك عبدالله الاقتصادية، ويقطع المسافة بين المدينتين في ساعتين فقط بسرعة 300 كم/س. وتُعد محطة جدة الأكبر عالميًا على مستوى محطات المسافرين للقطارات.
قطار المشاعر.. تجربة حضرية لخدمة ضيوف الرحمن
يُعد قطار المشاعر المقدسة أحد أبرز إنجازات النقل لمواسم الحج، حيث انطلقت أولى رحلاته عام 2010، لنقل الحجاج بين عرفات ومزدلفة ومنى عبر مسار طوله 20 كم. ويضم 17 قطارًا بـ204 عربات مكيفة تستوعب كل واحدة 300 حاج. وقد نقل القطار أكثر من 2.2 مليون حاج خلال موسم حج 2024، بأكثر من 2200 رحلة خلال 7 أيام.
مشروع “المنار”.. مدينة عصرية مستلهمة من تراث مكة
أطلقت مجموعة “روشن” – التابعة لصندوق الاستثمارات العامة – مشروع “المنار” على مساحة تفوق 21 مليون م²، ويوفر أكثر من 33 ألف وحدة سكنية إلى جانب 150 مرفقًا خدميًا تشمل مدارس، مساجد، مراكز رعاية، وأسواق. يبعد المشروع 20 كم فقط عن الحرم المكي، ويعكس في تصميمه روح التراث العمراني لمكة، ويهدف إلى تعزيز جودة الحياة لسكان المدينة.
تمضي مكة المكرمة بخطى واثقة نحو التحول إلى مدينة عالمية متكاملة، تجمع بين روحانيتها وتطورها الحضري والاقتصادي، وتُعد نموذجًا سعوديًا فريدًا في المزج بين الأصالة والمعاصرة، بفضل الرؤية الطموحة والمشروعات النوعية التي تعيد صياغة مستقبل أطهر بقاع الأرض.