في عالم تتزايد فيه متطلبات الاستدامة وكفاءة الموارد، تبرز تقنية الخرسانة ذاتية الإصلاح كحلمٍ قد أصبح حقيقة. ففي لحظة تشقق صغيرة على جدار مبنى أو جسر تآكل بفعل العوامل الجوية، لا يعود المهندس مضطرًا للتدخل الفوري باهظ الكلفة لصيانة البنية التحتية. بل تملك هذه الخرسانة المبتكرة القدرة على التئام الشقوق بنفسها، تمامًا كما يشفي الجسد البشري جراحه. هكذا، قد يعيدنا هذا الابتكار إلى عصر يبني فيه الإنسان بنىً قوية تدوم دون عناء الإصلاح الدائم، وتفتح آفاقًا جديدة لبناء مدن أكثر استدامة وأقل كلفة على المدى الطويل.
-
مبدأ عمل الخرسانة ذاتية الإصلاح
تعتمد الخرسانة ذاتية الإصلاح على دمج عوامل بيولوجية أو كيميائية بداخل الخلطة التقليدية، بحيث تستجيب آليًا عند تشكل تشققات دقيقة. وتنقسم الآليات الرئيسية إلى:
البكتيريا المتحفزة (Bio‑Concrete):
تُضاف حبيبات تحتوي على بكتيريا متخصصة (غالبًا من جنس Bacillus). تعيش هذه البكتيريا في حالة سبات داخل الخلطة الخرسانية، ولا تنشط إلا عند وصول الماء والأكسجين عبر الشقوق. فتصنع البكتيريا عند تنشيطها كربونات الكالسيوم (CaCO₃)، وهو نفس المعدن الذي يكوّن عادة طبقة الحماية على الخرسانة، فيملأ الشق ويعيد تكامله.
الميكروكبسولات المُدمجة (Microcapsules):
تُحقن الخلطة بحبيبات ميكروكبسولاتٍ محمّلة براتنجات أو مواد رابطة (Resin). عند تشكل تشققات تتجاوز حجم الكبسولة، تنفجر هذه الكبسولات ويخرج الحشو الراتنجي، فيتدفق ببطء إلى الشق ويجفّ، مُلّفًا الإطار وحاجزًا لمنع تسرب الماء والمواد المسببة للتآكل.
-
الفوائد
تقليل تكلفة الصيانة: يوفر الإنفاق على العمالة والمواد العلاجية التقليدية.
إطالة العمر الافتراضي: تصل إلى 50 عامًا إضافية في بعض التقديرات.
الاستدامة البيئية: يقلل هدر الموارد ويحد من الكربون الناتج عن أعمال الإصلاح.
السلامة: يقل خطر انهيار مفاجئ للأبنية والجسور.
3- التحديات
التكلفة الأولية: حاليًا تزيد بنسب تتراوح بين 10–20% عن الخرسانة التقليدية.
ضبط جودة الميكروبات أو الكبسولات: لضمان حيوية البكتيريا وعدم موتها أثناء الخلط والصب.
التنظيم والمعايير: تحتاج المجالس الهندسية والجهات الرقابية إلى تحديد معايير اختبار وتوثيق قبل الإقرار الواسع للتطبيق.
-
رؤية مستقبلية
مع تقدم البحوث وتراجع تكلفة المواد البيولوجية والكبسولات الذكية، يُتوقع أن تصبح الخرسانة ذاتية الإصلاح معيارًا عالميًا في المشاريع الكبرى بحلول عام 2035. وستشهد الأسواق نموذجًا جديدًا من عقود البناء طويل الأجل، حيث يتحمّل المصنّع أو المقاول جزءًا من مدى عمر المنتج وخدمات الصيانة تلقائيًا، في تحوّل جذري لشكل العقود الهندسية والتجارية.
كما تُجري شركات ناشئة اليوم تجارب على دمج خلايا شمسية نانوية وجسيمات كربونية فائقة القوة مع الخرسانة ذاتية الإصلاح؛ ما يفتح آفاقًا لإنشاء مبانٍ مولدة للطاقة وتتكامل فيها وظائف الهيكل والتحكم الذاتي بالعيوب.
تُعدّ الخرسانة ذاتية الإصلاح مثالًا حيًّا على كيف يمكن للابتكارات العلمية أن تأخذ بأيدينا نحو بناء أكثر أمانًا واستدامةً واقتصادية. وفي خضم التحديات المناخية وارتفاع أسعار الموارد، تقف هذه التقنية كسوق واعدة لمحترفي البناء والهيئات الحكومية على حد سواء، لتكون حجر الزاوية في جيل جديد من المدن الذكية والبنى التحتية المقاومة للزمن.
تجارب عملية للتقنيات المتطورة في البناء
كانت شركة Basilisk Concrete الهولندية من أوائل المطورين التجاريين لتقنية الخرسانة ذاتية الإصلاح، حيث طرحت منتجها «Basilisk Self‑Healing Concrete» على نطاق محدود للاستخدام في الأبنية والمشروعات الصغيرة. ومن أبرز تطبيقاتها:
جسر في أمستردام: تم استخدام الخرسانة ذاتية الإصلاح في بناء جسر مشاة خفيف الوزن؛ وقد اختبر المهندسون جدارًا تولد به شقوق متعمدة، فالتئمت تلقائيًا خلال أسابيع دون تدخل بشري.
ممر دراجات قريب من مطار سخيبول: حيث وُضعت عينات من الخرسانة معرضة للعوامل الجوية المتقلبة والشاحنات صغيرة الحجم. أظهرت النتائج انخفاضًا ملموسًا في عمق التشققات واختفاء معظم الشروخ خلال فصل الشتاء القارس.
وقد أسّست الشركة مختبرًا بيئيًا لمحاكاة ظروف التجمّد والذوبان المتكررة، فأكدت أن الخرسانة المزودة بالبكتيريا حافظت على قدرات تحملها الميكانيكي حتى بعد 25 دورة تجميد وذوبان، مقارنةً بانهيار كامل للخرسانة التقليدية عند 15 دورة.
-
تطبيقات مبتكرة ومستقبلية
تتوسع قائمة المشروعات التي تستفيد من هذه التقنية، ومن أبرزها:
أنفاق وطرق سريعة: تُغطَّى جدران الأنفاق والحوائط الاستنادية بطبقة من الخرسانة ذاتية الإصلاح لتقليل عملية الصيانة المكلفة وعدم الحاجة لإيقاف حركة المرور لفترات طويلة.
منشآت ساحلية ومرافئ: المقاومة للتآكل الكامل بفعل مياه البحر المالحة، عبر القدرة على ملء الشقوق ومنع تغلغل الأملاح.
محطات معالجة المياه والخزانات: التي تتعرض لتآكل داخلي نتيجة المواد الكيميائية والمياه الراكدة، فتضمن قدرة الخرسانة على سد الفواصل وتقليل التسريبات.
المشروعات الإسكانية منخفضة التكلفة: حيث يقلل تاريخ الصيانة إلى الصفر تقريبًا؛ ما يرفع جاذبية الاستثمار في الإسكان الاجتماعي ويسهم في تقليل فاتورة الصيانة الحكومية طويلة الأجل.