في ظل التحديات البيئية المتزايدة واشتداد آثار التغير المناخي على المجتمعات والمدن، لم يعد قطاع العقارات بمنأى عن المسؤولية. بل على العكس، بات التطوير العقاري المستدام في صميم النقاشات العالمية حول كيفية بناء مدن أكثر مرونة وأقل ضررًا بالبيئة.
فمن الأبنية الخضراء التي تستهلك طاقة أقل، إلى استخدام مواد صديقة للبيئة، وتوظيف الطاقة الشمسية وأنظمة العزل الذكي… أصبحت الاستدامة اليوم معيارًا للجودة لا مجرد رفاهية.
في هذا التقرير نلقي الضوء على مفهوم التطوير العقاري المستدام، كيف يساهم فعليًا في الحد من البصمة الكربونية، ولماذا أصبح خيارًا استراتيجيًا لمطوري العقارات في مواجهة التغيرات المناخية.
ما هو التطوير العقاري المستدام؟
يعني التطوير العقاري المستدام تصميم وتنفيذ مشاريع عقارية تأخذ بعين الاعتبار الأثر البيئي والاجتماعي والاقتصادي طوال دورة حياة المبنى، من التخطيط إلى الإنشاء والتشغيل، وحتى الهدم أو إعادة الاستخدام.
ويعتمد هذا المفهوم على:
تقليل استهلاك الطاقة والمياه.
الاعتماد على مصادر الطاقة المتجددة.
اختيار مواد بناء قابلة لإعادة التدوير أو صديقة للبيئة.
تصميم المباني لتعزيز التهوية الطبيعية والإنارة الشمسية.
توفير المساحات الخضراء داخل المشروعات.
كيف يُساهم في مواجهة التغيرات المناخية؟
1. تقليل الانبعاثات الكربونية:
المباني التقليدية مسؤولة عن نحو 40% من انبعاثات ثاني أكسيد الكربون عالميًا، حسب تقديرات الأمم المتحدة. عبر استخدام أنظمة توفير الطاقة، يمكن تقليص هذه النسبة بشكل كبير في المشاريع العقارية المستدامة.
2. الحد من استهلاك الطاقة:
أنظمة العزل الحراري، والنوافذ الذكية، واستخدام الطاقة الشمسية، جميعها تقلل الاعتماد على الكهرباء، مما يقلل من انبعاثات غازات الدفيئة.
3. إدارة أفضل للمياه:
من خلال أنظمة جمع مياه الأمطار، وإعادة تدوير المياه الرمادية، وترشيد استهلاك المياه في الحمامات والمطابخ.
4. خفض التلوث الحراري في المدن:
المباني الخضراء تقلل من ظاهرة “الجزيرة الحرارية” في المدن، التي تنتج عن كثافة الخرسانة وقلة المساحات الخضراء.
أمثلة عالمية وعربية على مشاريع مستدامة
مدينة مصدر في الإمارات: واحدة من أوائل المدن المستدامة بالكامل في العالم، تعتمد على الطاقة الشمسية بنسبة كبيرة وتتبنى تصميمات تقلل من استهلاك الطاقة بنسبة تصل إلى 40%.
أبراج التسامح في السعودية: مشروع يدمج تقنيات العزل الذكي ويوظف تقنيات الطاقة الشمسية لتقليل الانبعاثات.
مشاريع سكنية في أوروبا: مثل “بيدزينغ” في بريطانيا، التي تستهلك 90% طاقة أقل للتدفئة من المباني العادية.
ما الذي يدفع المطورين لاعتماد الاستدامة؟
المعايير البيئية العالمية: مثل تصنيف LEED وBREEAM، باتت شرطًا للحصول على تمويل أو جذب مستثمرين دوليين.
الطلب المتزايد من المشترين: الجيل الجديد من المشترين أصبح أكثر وعيًا ويرغب في العيش في بيئة صحية ومستدامة.
خفض التكاليف على المدى الطويل: رغم ارتفاع تكلفة الإنشاء الأولية، إلا أن توفير الطاقة والمياه يقلل المصاريف التشغيلية مستقبلاً.
امتثال للتشريعات: العديد من الدول بدأت بفرض ضوابط بيئية على البناء الجديد، مما يدفع المطورين للتكيف.
التحديات التي تواجه العقار الأخضر
ارتفاع التكلفة الأولية.
قلة الكوادر المدربة محليًا في بعض الأسواق.
نقص الحوافز الحكومية في بعض الدول.
ضعف الوعي لدى المستهلك في بعض المناطق.
لكن في المقابل، هناك توجه متسارع من الحكومات في العالم العربي – وخاصة الخليج – نحو تشجيع المباني المستدامة، سواء عبر التشريعات أو منح امتيازات للمطورين.
إن التطوير العقاري المستدام ليس فقط استجابة للتغيرات المناخية، بل فرصة لإعادة تعريف مفهوم “العقار الذكي” الذي لا يخدم ساكنيه فحسب، بل يراعي موارد الأرض وحق الأجيال القادمة. ومع ازدياد الوعي البيئي والمخاطر المناخية، يتحول هذا الاتجاه من كونه خيارًا إلى كونه ضرورة استراتيجية للقطاع العقاري.