تحوّل كبير يلوح في أفق المشهد الحضري السعودي، بعد أن أعلنت وزارة الصناعة والثروة المعدنية السماح بممارسة 46 نشاطًا صناعيًا منخفض الأثر البيئي داخل المدن وعلى الشوارع التجارية. القرار الذي جاء استنادًا إلى نتائج أعمال لجنة مركزية ضمت ثماني جهات حكومية، يضع السوق العقاري أمام مرحلة مفصلية من إعادة التكيّف مع متغيرات جديدة في استخدامات الأراضي والأنشطة الحضرية.
الأنشطة التي سُمح بها داخل الشوارع التجارية صُنّفت بعد دراسة شاملة شملت 1,143 نشاطًا صناعيًا، وتم تصنيفها بحسب التأثير البيئي إلى ثلاث فئات رئيسية: عالية المهارة، والماهرة، والأساسية، مع التركيز على الأنشطة ذات التأثير البيئي المنخفض. وبحسب ما أعلنته الوزارة، تبدأ المرحلة الأولى من التنفيذ في 6 يوليو 2025 بإعادة تصنيف العمالة والمنشآت القائمة داخل المدن، تليها المرحلة الثانية في 3 أغسطس 2025، وتشمل المنشآت الصناعية الجديدة التي ستُقام داخل النطاق العمراني.
نقلة في قيم الأراضي والمباني
القرار يشكّل نقلة نوعية في علاقة الصناعة بالمدينة، ويطرح في الوقت ذاته جملة من التحديات والفرص أمام القطاع العقاري. فمن جهة، يُنتظر أن ينعكس هذا التحول في زيادة الطلب على العقارات متعددة الاستخدامات، التي يمكن أن تستوعب وحدات صناعية خفيفة مثل الورش الصغيرة، معامل الأغذية، ومراكز إنتاج رقمي، إلى جانب الاستخدام التجاري أو السكني. ومن جهة أخرى، قد يتسبب التوسع غير المدروس لهذه الأنشطة في ضغوط عمرانية وبيئية قد تؤثر سلبًا على جاذبية بعض الأحياء العقارية.
بحسب متابعين للسوق، فإن المناطق التجارية داخل المدن الكبرى مثل الرياض وجدة والدمام قد تشهد تحوّلاً تدريجيًا في أنماط الاستخدام، لا سيما في الشوارع الحيوية التي يمكن أن تستقطب أنشطة صناعية خفيفة تتطلب القرب من المستهلك النهائي. ويتوقع أن ترتفع أسعار الأراضي والمباني القابلة للتكيّف مع هذا النمط الجديد من الاستخدام، فيما قد تشهد بعض العقارات السكنية المجاورة لهذه الأنشطة انخفاضًا نسبيًا في القيمة إذا لم يتم فرض ضوابط صارمة تضمن جودة الحياة للمقيمين.
ضوابط صارمة ومراقبة بيئية
الجانب البيئي مثّل محورًا رئيسيًا في أعمال اللجنة المركزية، حيث ألزمت الوزارة كل منشأة صناعية بتقديم دراسة للأثر البيئي على نفقتها الخاصة، فيما أكدت الجهات المختصة أن استمرار النشاط الصناعي في أي موقع داخل المدن سيخضع لمراجعة شاملة تشمل السلامة، الأثر الصحي، واستخدامات الأراضي المحيطة، مع إمكانية تصحيح وضع بعض المنشآت المخالفة أو نقلها أو إغلاقها في حال تعارضها مع التوجهات العمرانية للمنطقة.
ويشير مختصون إلى أن التجارب الدولية في هذا المجال، مثل نموذج “المشاغل الحضرية” في برلين، أو مناطق الصناعة الخفيفة في سنغافورة، أثبتت أن دمج الصناعات الخفيفة في النسيج الحضري يمكن أن يؤدي إلى تحفيز النمو العقاري وتنشيط الاقتصاد المحلي، بشرط وجود تخطيط عمراني ذكي وفصل وظيفي بين الاستخدامات لضمان عدم الإضرار بجودة الحياة. وقد شهدت مدن مثل دبي تطورًا مشابهًا، حيث تحولت مناطق مثل “القوز” و”الراس” من مجمعات صناعية مغلقة إلى فضاءات متعددة الاستخدامات تضم استوديوهات فنية، وأسواق تجزئة، وورش إنتاج إبداعي.
فرص عقارية جديدة
وفي السعودية، يشير خبراء إلى أن القرار سيولد موجة جديدة من الفرص العقارية، تشمل تطوير مشاريع هجينة تجمع بين التصنيع الخفيف، والتجزئة، والسكن أو المكاتب، ما يستدعي من المطورين العقاريين تبني نماذج تصميم أكثر مرونة، وربما إعادة تأهيل المباني القديمة لتتناسب مع احتياجات هذه الأنشطة. كما يُتوقع أن تنمو قيمة المخازن الصغيرة والمستودعات داخل المدن، خاصة في ظل النمو المتزايد في قطاعات التجارة الإلكترونية والتجميع اللوجستي.
رغم ما تحمله هذه النقلة من إمكانات اقتصادية وتنموية، إلا أن المخاوف قائمة من إمكانية توسّع هذه الأنشطة على حساب التخطيط الحضري، أو تسرب أنشطة صناعية ذات أثر بيئي متوسط أو مرتفع في حال ضعف الرقابة. لذلك، يُعد نجاح هذه التجربة رهينًا بقدرة الجهات التنظيمية على تنفيذ اشتراطات دقيقة، وإيجاد حلول عمرانية ذكية تفصل بين مناطق الصناعة والسكن، إلى جانب تقديم حوافز لتطبيق مفاهيم البناء الأخضر والطاقة المستدامة، ما يُعزز من جاذبية الاستثمار الصناعي داخل المدن دون أن يؤثر على نمط الحياة فيها.
تغير أنماط الطلب
ويؤكد خبراء في القطاع العقاري أن استغلال القرار يتطلب من المستثمرين والمطورين تحركًا سريعًا لاستكشاف المناطق القابلة للتحول العقاري، والاستفادة من التغير في أنماط الطلب، خاصة مع إمكانية خلق مساحات جديدة للاستثمار العقاري الصناعي، الذي كان محصورًا سابقًا في الأطراف أو المناطق الصناعية المغلقة.
ويرى مراقبون أن المملكة تستعد لمرحلة جديدة من التكامل بين الأنشطة الاقتصادية والحضرية، يكون فيها العقار شريكًا مباشرًا في التنمية الصناعية، وتكون المدينة منصة إنتاج بقدر ما هي فضاء معيشة، وهي خطوة تُعزز من مرونة الاقتصاد، وتنقل السوق العقاري من الرتابة التقليدية إلى ديناميكية متعددة الأبعاد والوظائف.