الأراضي المشاع في السعودية: بين تعقيد الملكية وفرص التحول العقاري
الدكتور / خالد بن سعد الحبشان
الأراضي المشاع في المملكة العربية السعودية تمثل إحدى القضايا العقارية المركبة التي تتقاطع فيها الأبعاد النظامية، والاقتصادية، والتنموية، والعدلية. هذه الأراضي التي يتقاسم ملكيتها أكثر من شخص دون وجود فرز دقيق أو حدود معتمدة، كانت في السابق مقبولة واقعاً بحكم العادات أو الورثة، لكنها في ظل التحولات الاقتصادية والعمرانية التي تعيشها المملكة أصبحت تمثل عائقًا حقيقيًا أمام الاستثمار، وتطوير الأحياء، وتخطيط المدن المستقبلية. فالملكية المشتركة عندما تكون غير محددة الحصص والمساحة بدقة، تنتج عنها إشكالات قانونية وإدارية تعطل عملية التسجيل ونقل الملكية، بل وقد تمنع التوثيق ذاته، مما يبقي هذه الأراضي خارج إطار التنمية الفعلية.
في السنوات الأخيرة، أطلقت المملكة عددًا من الإصلاحات التنظيمية التي تهدف إلى تحسين البيئة العقارية ورفع الشفافية وتعزيز كفاءة السوق. الهيئة العامة للعقار أصدرت أكثر من 20 تشريعًا حديثًا، وساهمت في تصحيح أو تحديث أكثر من 350 ألف صك عقاري، ورفعت جودة بيانات 1.3 مليون خريطة ضمن جهود التحول نحو نظام التسجيل العيني. وفي الوقت نفسه، عملت وزارة العدل عبر منصاتها الرقمية مثل «إفراغ” و«توثيق” على تسهيل عمليات نقل الملكيات، وتقليص الإجراءات الورقية، وتمكين أصحاب الشأن من تسجيل ممتلكاتهم إلكترونيًا. كما جاءت منصة “إحكام” لتفتح باب تسوية أوضاع الأراضي غير المثبتة بصكوك شرعية، إلا أن نسبة كبيرة من الطلبات الواردة كانت تتعلق بأراضٍ مشاعة، يصعب توثيقها بسبب اختلاف البيانات أو وجود خلافات بين الشركاء.
من الناحية الاقتصادية، فإن الأراضي المشاع تشكل عبئًا على دورة النمو العمراني والاستثماري، إذ إن المطورين لا يمكنهم الدخول في مشاريع بناء أو تخطيط إلا بعد إنهاء الشيوع وتحديد الملكيات بشكل قانوني. وتُبقي هذه الأراضي في وضع مجمّد، لا يمكن تطويره ولا استثماره ولا حتى بيعه، ما يحد من توفر الأراضي السكنية، ويعزز من فجوة العرض والطلب في السوق. ووفقًا لتقرير “Saudi Arabia Real Estate Market – Growth, Trends, and Forecasts (2025–2033)” الصادر عن شركة Markets & Markets العالمية المتخصصة في دراسات وتحليلات الأسواق، بلغ حجم سوق العقارات في المملكة نحو 72.11 مليار دولار في عام 2024، ومن المتوقع أن يصل إلى 132.65 مليار دولار بحلول 2033، بمعدل نمو سنوي مركب يبلغ 7.0%، مدفوعًا ببرامج الرؤية ومشاريع المدن الكبرى والتحضر السريع. هذه الأرقام الطموحة لا يمكن أن تتحقق ما لم تُحرر الأراضي المشاعة من تعقيداتها القانونية وتحول إلى وحدات مستقلة قابلة للتداول والاستثمار.
ويُعد التحدي الأكبر في هذا الملف أن كثيرًا من الشركاء لا يتجاوبون مع محاولات إنهاء الشيوع، إما بسبب الجهل النظامي، أو الخلافات الأسرية، أو حتى غياب الدافع الشخصي. وقد تكون بعض هذه الأراضي موزعة بين عشرات الورثة، أو تفتقر إلى حدود واضحة، ما يعقّد عملية القسمة والفرز. ولهذا، تبرز الحاجة إلى تدخل تشريعي حازم يمكّن الجهات الحكومية من تطبيق الفرز القسري متى ما تعذر الاتفاق، ويحفّز إنهاء الشيوع باستخدام أدوات ضريبية وتشريعية فعالة.
وفي خطوة تنظيمية مهمة، صدر في أبريل 2025 تعديل على نظام رسوم الأراضي البيضاء ليشمل المباني الشاغرة ويرفع نسبة الرسوم إلى 10% من قيمة الأرض سنويًا، وهو ما يزيد من الضغط على ملاك الأراضي غير المطورة، بما فيهم أصحاب الأراضي المشاع، ويدفع باتجاه تحرير هذه الأراضي من الجمود وتحويلها إلى أصل منتج.
تُعد معالجة ملف الأراضي المشاع من أولويات تحسين جودة الحياة وتحقيق التوازن في سوق الإسكان، إذ أن هذه المعالجة لا تقف عند حدود قانونية أو عقارية، بل تمتد لتصبح ضرورة وطنية تنموية تسهم في تحقيق مستهدفات رؤية السعودية 2030، وتدعم استدامة المدن الذكية، وترفع من كفاءة استخدام الموارد العقارية. ومن هذا المنطلق، فإن المرحلة المقبلة تتطلب وضع آلية إلزامية تنص على إنهاء الشيوع خلال مدد زمنية محددة، وتمكين الجهات الحكومية من مباشرة الفرز الإداري، وربط بيانات المشاع مع منصات التقييم العقاري، وتطبيق حوافز وضغوط اقتصادية متدرجة لدفع الشركاء نحو التصرف العادل والسريع.
التحول العقاري في المملكة لا يُبنى فقط على المشروعات الكبرى والمدن الذكية، بل يبدأ من الأرض ذاتها، ومن القدرة على تحويل الأرض الساكنة إلى قيمة مضافة. وملف الأراضي المشاع يقف اليوم أمام لحظة حاسمة، تستدعي حوكمة شجاعة، ورؤية تنفيذية مشتركة بين المشرع والمستثمر والمواطن، لتتحول الأرض من خلاف مشترك إلى مستقبل مشترك.
مستشار في حوكمة الشركات وتنظيم الاستثمار العقاري
@AlhabshanDr