في الوقت الذي تتسع فيه المدن أفقياً كأنها لا تعرف حدودًا، وتمتد الضواحي على حساب الطبيعة ومعالم العمران. نشهد مشروعًا فريدًا كأنه جاء من المستقبل، ليقلب الموازين ويعيد كتابة قواعد التخطيط الحضري.
لم يكن صرحًا شاهقًا يلامس السحاب، ولا مدينة ذكية جديدة تُضاف إلى خارطة الابتكار، بل كان إعلانًا عن رؤية غير مسبوقة. مدينة تشبه الخط المستقيم اللامع، بلا شوارع ولا انبعاثات كربونية سامة.
هكذا وُلد مشروع ذا لاين، ليضع تصورًا غير مسبوق لمستقبل المدن، ويعيد رسم العلاقة بين الإنسان، والمكان، والتقنية. ومنذ لحظة الإعلان عنه، شغل المشروع موقعًا محوريًا في النقاشات الدولية حول مستقبل التخطيط العمراني والاستدامة، لكنه في الوقت ذاته فتح نوافذ واسعة أمام فرص استثمارية تتجاوز الأبعاد التقليدية للعقار.
في هذا المقال، نستعرض مشروع ذا لاين كمنظومة متكاملة، تجمع بين الابتكار العمراني، والبنية التحتية الذكية، والفرص الاستثمارية؛ لنرصد ملامح مدينة قد تعيد تعريف التنمية الحضرية في المملكة والمنطقة.
نبذة عن مشروع ذا لاين
يشكل مشروع ذا لاين أحد الأعمدة الرئيسية لرؤية السعودية 2030، وهو مشروع عمراني غير تقليدي يقع ضمن منطقة نيوم شمال غرب المملكة، بمحاذاة سواحل البحر الأحمر. أُعلن عنه في يناير 2021 كمخطط لمدينة تمتد بطول 170 كيلومترًا بخط مستقيم، وبعرض لا يتجاوز 200 متر، وتُبنى على ارتفاع يصل إلى 500 متر. صُممت المدينة لتستوعب نحو 9 ملايين نسمة عند اكتمالها، وتعمل بالكامل بالطاقة المتجددة، دون سيارات أو انبعاثات كربونية، مع اعتماد كلي على وسائل نقل عالية السرعة وتكامل رقمي شامل.
وما يميز مدينة ذا لاين ليس فقط هندستها الطموحة، بل الرؤية الحضرية التي تحملها، فهي مدينة تدمج بين الاستدامة البيئية، والكثافة السكانية الذكية، والذكاء الاصطناعي، في نموذج معيشي جديد لا يشبه أنماط المدن التقليدية. وقد رُصد للمشروع تمويل ضخم تجاوز في مراحله الأولى 500 مليار دولار، مع خطط توسعية تصل إلى تريليوني دولار بحسب التقديرات الحديثة، مما يجعله واحدًا من أضخم المشاريع الحضرية في العالم من حيث الاستثمار والحجم.
وتمضي عمليات التصميم والتنفيذ بالشراكة مع كبرى الشركات العالمية في مجالات الهندسة والتخطيط الحضري، إلى جانب تحالفات محلية لتنفيذ البنية التحتية والسكن المؤقت للكوادر. ومع تخطيط مرحلي يمتد حتى عام 2045، يُتوقع أن تشكل مدينة ذا لاين محورًا اقتصاديًا وسكانيًا جديدًا، وبوابة متقدمة للاستثمار العقاري عالي التقنية في المملكة والمنطقة.
تصميم المدينة: بنية خطية برؤية عمودية
يعتمد تصميم مشروع ذا لاين على مفهوم غير مسبوق في التخطيط الحضري يُعيد تعريف الكثافة السكانية؛ إذ يتم توزيع المساكن، والمساحات المكتبية، والمرافق العامة، والخدمات التجارية، في طبقات رأسية مترابطة، تتيح الوصول إليها خلال دقائق سيرًا على الأقدام.

إضافة إلى ذلك، فالمدينة مُقسمة إلى وحدات حضرية صغيرة متكررة، تُعرف باسم «المجتمعات النمطية»، كل منها يوفر نطاقًا سكنيًا وخدميًا متكاملًا، ويرتبط بباقي المدينة عبر شبكة نقل فائق السرعة تحت الأرض، تُتيح التنقل من طرف المدينة إلى طرفها الآخر في أقل من 20 دقيقة. وقد أُزيلت الشوارع التقليدية، واستُبدلت بممرات خضراء ومسارات مشاة تربط المساحات الداخلية والخارجية بسلاسة.
ومن الناحية الجمالية، يتم تغليف المدينة بواجهات زجاجية عاكسة تعكس البيئة الطبيعية المحيطة، لتُقلل الأثر البصري للمدينة على المنظر الطبيعي، وتعزز الشعور بالاندماج مع الطبيعة. لا يهدف التصميم فقط إلى الجمال، بل يخدم أيضًا غايات بيئية؛ إذ يُقلل من استهلاك الطاقة ويُعزز كفاءة التبريد والإنارة الطبيعية.
يمثل هذا النموذج التخطيطي تطورًا نوعيًا في المفاهيم الحضرية الحديثة، ويُعطي الأولوية لجودة الحياة، والكفاءة في استخدام الموارد، والحد من الزحف العمراني، ما يجعله نموذجًا جذابًا للمدن المستقبلية حول العالم.
التكنولوجيا والبنية التحتية
يشكل الجانب التقني في مشروع ذا لاين أحد أعمدته الأساسية؛ إذ لا يُنظر إلى التكنولوجيا فيه كأداة داعمة، بل كبنية مركزية تُدار بها المدينة وتُبنى من خلالها الحياة اليومية. كما تعتمد ذا لاين على نظام رقمي موحد يُشرف على جميع عناصر المدينة، من الطاقة والمياه إلى الأمن والمواصلات، وتُغذيه شبكة من أجهزة الاستشعار والذكاء الاصطناعي التي تعمل باستمرار على تحليل البيانات والتكيف مع احتياجات السكان لحظيًا.
إضافة إلى ذلك، تعتمد البنية التحتية في ذا لاين على أنظمة غير تقليدية؛ إذ توجد جميع وسائل النقل والخدمات اللوجستية تحت الأرض، ما يهيء السطح بالكامل للمشاة والطبيعة. وتُدار عمليات النقل عبر قطار فائق السرعة يربط أطراف المدينة، إلى جانب مركبات ذاتية القيادة، وشبكات توصيل آلية للبضائع والخدمات، تضمن الكفاءة وتقلل الأثر البيئي.
من ناحية الطاقة، تلتزم المدينة بالاكتفاء الكامل من مصادر متجددة، على رأسها الطاقة الشمسية والهيدروجين الأخضر، في إطار توجه نيوم لتكون أول منظومة متكاملة للطاقة المستدامة على مستوى العالم. كما تُدمج تقنيات مثل التوأمة الرقمية (Digital Twin) لمراقبة البنية التحتية بشكل لحظي، بما يسمح بإجراء الصيانة والتحسينات قبل وقوع أي خلل.
الإمكانات الاستثمارية والعقارية
يمثل مشروع ذا لاين نقلة نوعية في مشهد الاستثمار العقاري بالمملكة، ليس فقط بسبب حجمه وضخامته، بل لما يقدمه من نموذج جديد بالكامل لبيئة عمرانية مستقبلية. وبالنسبة للمستثمرين العقاريين وشركات التطوير، يفتح المشروع آفاقًا غير مسبوقة لفرص استثمارية ذات طابع تقني وبيئي وتجريبي، تتجاوز الأطر التقليدية للاستثمار في السكن أو التجارة.
تتوزع الفرص العقارية الأساسية على عدة مستويات:
- الوحدات السكنية الذكية، بفضل الكثافة الرأسية والتنقل الفائق السرعة، ستكون هناك حاجة دائمة لوحدات سكنية مدعمة بالتقنيات الذكية، ومصممة خصيصًا لأسلوب حياة رقمي عالي الكفاءة.
- المساحات التجارية والمكتبية، خاصًة مع استهداف المدينة لاستقطاب رواد الأعمال والشركات العالمية في قطاعات التقنية، والذكاء الاصطناعي، والطاقة النظيفة؛ إذ يُتوقع نمو الطلب على مساحات عمل مرنة ومصممة وفق معايير الاستدامة.
- قطاع الضيافة والتجارب المستقبلية، حيث تقع ذا لاين ضمن نطاق نيوم الذي يضم بيئات طبيعية خلابة، ما يجعلها نقطة جذب جديدة للسياحة المتقدمة. وبالتالي تبرز فرص الاستثمار في الضيافة الذكية، والفنادق المستدامة، والمرافق الترفيهية الغامرة.
- البنية التحتية الرقمية والخدمية، بما أن المدينة تُدار رقميًا بالكامل، فهناك احتياج متزايد للاستثمار في مراكز البيانات، وشبكات الجيل الخامس، وأنظمة الأمن السيبراني، بالإضافة إلى حلول الخدمات اللوجستية الذاتية.
ويُعزز من جاذبية الاستثمار وجود دعم حكومي مباشر، وتمويل ضخم من صندوق الاستثمارات العامة، فضلاً عن حوافز خاصة للاستثمارات الأجنبية، وتنظيمات حضرية جديدة تسمح ببناء نماذج تطوير مرنة وغير تقليدية.
توصيات استراتيجية: قراءة استباقية للمستقبل العقاري
مع كل ما يحمله مشروع ذا لاين من طموحات عمرانية وتقنية، يتضح أنه منصة شاملة لإعادة تعريف الاستثمار العقاري في المملكة والمنطقة. ورغم أن المشروع ما زال في مراحله الأولى، إلا أن سرعة التنفيذ، ووضوح الرؤية، وارتباطه المباشر برؤية السعودية 2030، تجعل من التفكير الاستراتيجي المبكر ضرورة لا ترفًا.
ومن هذا المنطلق، نوصي الفاعلين في القطاع العقاري بمراعاة ما يلي:
- رصد التخصصات العقارية الناشئة؛ إذ ينبغي التوجه إلى تطوير حلول عقارية متوافقة مع المدن الذكية والخضراء، مثل المجمعات الذكية، والسكن المتصل بالذكاء الاصطناعي، والبنية التحتية الرقمية.
- الدخول في شراكات تطوير مشتركة، فالمشروع يتطلب نماذج تعاون مرنة مع الجهات الحكومية، وكيانات نيوم، والمطورين الدوليين، لتقاسم المعرفة والمخاطر، وتحقيق تكامل في الحلول.
- استباق الاحتياجات التشغيلية؛ إذ لا تقتصر فرص الاستثمار على البناء فقط، بل تشمل تشغيل الخدمات المساندة مثل الأمن الذكي، إدارة الطاقة، النقل المستدام، والصيانة الوقائية الرقمية.
- التركيز على القيمة طويلة الأجل، رغم أن العوائد الفورية قد لا تكون بارزة في المرحلة الحالية، إلا أن ذا لاين يُعد استثمارًا طويل الأجل في مستقبل المدن، ويمكن أن يوفر قيمة عالية للمستثمرين الذين يتحركون الآن بقرارات مدروسة.
لا يمكن التعامل مع ذا لاين كمشروع عقاري تقليدي، بل يجب النظر إليه كتحول حضري شامل، يتطلب نمطًا جديدًا من التفكير، واستعدادًا للعب دور في تشكيل معايير المدينة المستقبلية. إضافةً إلى ذلك، فهي تعد فرصة نادرة لمن يريد أن يكون جزءًا من الجغرافيا الجديدة للابتكار العمراني حول العالم.