المسؤولية القانونية في تأخر تسليم مشاريع البيع على الخارطة
د. عبدالحكيم بن عبدالله الخرحي
تُعد مشاريع البيع على الخارطة من أبرز التحولات في السوق العقاري السعودي خلال السنوات الأخيرة، إذ أتاحت للمطورين تمويل مشاريعهم من خلال المستفيدين أنفسهم، وأوجدت حلولًا عملية لتوفير السكن وتسريع التنمية العمرانية. غير أن هذه الصيغة التعاقدية الحديثة حملت في طياتها تحديات قانونية متكررة، يأتي في مقدمتها تأخر تسليم الوحدات السكنية عن المواعيد المتفق عليها، وما يترتب على ذلك من أضرار مالية ومعنوية للمشترين.
المسألة هنا لا تقتصر على تأخر في التنفيذ، بل تمس جوهر الالتزام التعاقدي للمطور العقاري، الذي تعهّد بتسليم وحدة جاهزة وفق المواصفات المحددة وفي الموعد المعلن. فالعقد في مشاريع البيع على الخارطة ليس وعدًا بنقل ملكية مستقبلي فحسب، بل التزامٌ حقيقي بإنجاز محدد المدة والمواصفات، يخضع لرقابة نظامية دقيقة من وزارة البلديات والإسكان، ومن الجهات الممولة والمشرفة على المشروع.
من الناحية النظامية، يشكّل نظام البيع على الخارطة ولائحته التنفيذية الإطار المرجعي الرئيس في هذا المجال، إذ يفرض على المطور العقاري جملة من الالتزامات الجوهرية؛ أبرزها فتح حساب ضمان خاص بالمشروع، وعدم استخدام أموال المستفيدين إلا في حدود ما تم إنجازه فعليًا، وتقديم تقارير دورية عن نسب التقدم في العمل. هذه الالتزامات ليست شكلية، بل تمثل الضمان الحقيقي للمستفيد وللسوق معًا، ويُعد الإخلال بها مخالفة موجبة للمساءلة.
أما نظام المعاملات المدنية فقد جاء ليُرسّخ القواعد العامة في التنفيذ والوفاء بالالتزامات، حيث يؤكد على أن “من التزم بشيء لزمه الوفاء به في الزمن المحدد، فإن تأخر لغير عذر مشروع لزمه التعويض”. وبهذا يُصبح التأخير في تسليم المشروع إخلالًا تعاقديًا موجِبًا للمسؤولية المدنية، ما لم يثبت المطور وجود سبب قهري حال دون التنفيذ، كظروف استثنائية عامة أو قوة قاهرة خارجة عن الإرادة.
غير أن الممارسة العملية تُظهر أن كثيرًا من حالات التأخير لا ترجع إلى أسباب قهرية، بل إلى ضعف في التخطيط المالي أو الإداري، أو إساءة في استخدام دفعات المشترين، أو بطء في اتخاذ القرارات التنفيذية. وفي هذه الحالات، يحق للمشتري أن يطالب بالتعويض عن الضرر الفعلي، سواء تمثّل في الكلفة الإضافية للسكن المؤقت، أو في الخسارة الناتجة عن تعطّل الانتفاع بالعقار، بل وحتى عن الضرر المعنوي المترتب على الإخلال بالثقة والالتزام وفق العقد الموقع والأنظمة المرعية.
ويبرز هنا دور الجهات الرقابية، فالنظام حمّل وزارة البلديات والإسكان مسؤولية الإشراف والرقابة المسبقة والمستمرة على المشاريع المرخصة، غير أن فعالية الرقابة تتوقف على دقة الإفصاح الدوري للمطورين، وعلى سرعة التدخل عند ظهور مؤشرات تأخير أو خلل مالي. وفي بعض الحالات، قد تتقاطع المسؤولية بين المطور والمقاول المنفّذ، وهنا يصبح التمييز بين الالتزامات التعاقدية والتنفيذية أمرًا حاسمًا عند تقدير المسؤولية أمام القضاء.
من الزاوية الاقتصادية، فإن التأخر في تسليم المشاريع ينعكس سلبًا على ثقة المستهلكين في السوق العقاري، ويؤثر على تدفق التمويل من المصارف والمستثمرين، فضلًا عن كلفته الاجتماعية المتمثلة في تعطّل خطط الأسر وتأجيل استقرارها السكني. ولهذا فإن المسؤولية القانونية لا تُمارس فقط بأثرٍ رجعي عند وقوع الإخلال، بل ينبغي أن تُبنى على منظومة وقائية تضمن التزام المطور منذ مرحلة التخطيط وحتى التسليم.
ولعل من أهم أدوات الوقاية الممكنة نشر تقارير شفافة عن نسب إنجاز المشاريع المرخصة، وتمكين المشترين من متابعة سير التنفيذ عبر منصات رقمية موثوقة، إضافة إلى إلزام المطورين بتقديم ضمان زمني محدد لتسليم المشروع، وتقرير جزاءات واضحة عند الإخلال به. فالمسؤولية القانونية ليست غاية عقابية، بل وسيلة لضمان التوازن والعدالة بين المطور والمستفيد، وتحقيق مبدأ الثقة في التعاقد.
ختامًا، لا شك أن تطوير قطاع البيع على الخارطة يمثل ركيزة أساسية في تحقيق مستهدفات الإسكان ورؤية 2030، غير أن نجاحه لا يُقاس بعدد المشاريع، بل بقدرتها على الالتزام بالمواعيد، والوفاء بالحقوق، وإرساء ثقافة تعاقدية قائمة على الوضوح والانضباط. فالمسؤولية القانونية في تأخر التسليم ليست مجرد نص نظامي، بل هي معيار لمصداقية السوق واستدامة الثقة فيه.
@Dr_alkharji
محامٍ ومستشار قانوني
