في سوق عقاري سعودي يضج بالحياة والنمو المتسارع مدفوعاً باستثمارات رؤية 2030 التي تتجاوز التريليون دولار، لم يكن أحد يتوقع أن يأتي التحدي الأكبر من داخل البيت الحكومي نفسه. فمع إطلاق منصة “ديجيتار” الذكية من رحم منظومة “سكني”، لم تعد المنافسة بين المنصات العقارية الخاصة البالغ عددها 71 منصة مرخصة هي القصة الرئيسية، بل أصبحت معركة بقاء في مواجهة لاعب جديد يملك كل الأوراق الرابحة: الحكومة.
إن دخول “ديجيتار” ليس مجرد إضافة لاعب جديد، بل هو تغيير جذري لقواعد اللعبة. فبينما كانت المنصات الخاصة تتنافس على جودة الواجهات وعدد الإعلانات، جاءت “ديجيتار” بسلاح لا يمكن مجاراته: التكامل الحكومي الشامل. فمن داخل لوحة تحكم واحدة، يستطيع الوسيط العقاري الآن ليس فقط عرض عقاراته، بل “إصدار رخصة الإعلان” مباشرة من الهيئة العامة للعقار، و”إصدار عقد الوساطة العقارية”، و”إصدار عقد الإيجار” الموثق. لقد تحولت الإجراءات التي كانت تتطلب التنقل بين منصات “فال” و”إيجار” إلى مجرد نقرة زر، مما قضى على أكبر نقطة ألم يعاني منها السوق.
أضف إلى ذلك ترسانة من المزايا الأخرى: “مؤشرات سوق” مدعومة بالذكاء الاصطناعي الذي يتغذى على بيانات “سكني” الرسمية، وعرض ترويجي صادم يجعل الخدمة مجانية بالكامل لمدة 6 أشهر. وحتى بعد انتهاء العرض، تبدو الأسعار الشهرية (150 ريالاً للفرد) مصممة لسحق المنافسة التي قد تصل أسعارها إلى 2000 ريال سنوياً.
مستقبل المنصات الخاصة: “ابتكر أو اندثر”
أمام هذا الواقع الجديد، تجد المنصات الخاصة نفسها عند مفترق طرق مصيري. فالمنصات التي بنت نموذج عملها على كونها مجرد “لوحة إعلانات رقمية” تواجه خطر التبخر، فعرض القيمة الأساسي لديها تآكل تماماً. المستقبل سيُكتب وفق ثلاثة سيناريوهات محتملة:
- سيناريو التصفية والاندماج: ستواجه المنصات العامة ضغطاً هائلاً على هوامش أرباحها، مما سيجبر اللاعبين الصغار على الخروج من السوق، بينما قد تندمج الكيانات المتوسطة لتكوين تكتلات قادرة على الصمود. السوق لن يتسع للجميع، وعملية “التطهير الرقمي” تبدو حتمية.
- سيناريو التخصص الدقيق: البقاء للأكثر تخصصاً. لن تستطيع “ديجيتار” تلبية كل احتياجات السوق بكفاءة متساوية. هنا تكمن فرصة المنصات الذكية للتركيز على قطاعات محددة مثل العقارات الفاخرة التي تتطلب تسويقاً خاصاً، أو العقارات التجارية والصناعية، أو تقديم خدمات ذات قيمة مضافة لا توفرها المنصة الحكومية، كخدمات فحص العقارات المتقدمة أو تحليلات الاستثمار المعمقة.
- سيناريو التكامل الذكي: الأكثر حكمة لن ينافسوا الحكومة، بل سيبنون فوق بنيتها التحتية. ستتحول هذه المنصات من بوابات إعلانية إلى أنظمة إدارة علاقات عملاء (CRM) وتسويق متطورة للوسطاء المحترفين، تتكامل مع “ديجيتار” لإنجاز الإجراءات الرسمية، بينما تركز هي على تمكين الوسيط من خدمة عملائه بشكل أفضل.
ومن هو المستفيد الأكبر؟
على المدى القصير، المستفيد الأكبر هو الوسيط العقاري والمستهلك النهائي. سيحصل الوسيط على أداة فائقة الكفاءة بتكلفة منخفضة، بينما سيتمتع المستهلك بسوق أكثر شفافية وموثوقية، خالٍ من الإعلانات الوهمية بفضل الربط الإلزامي بالرخص الرسمية.
أما على المدى الطويل، فالفائز هو الاقتصاد الوطني والسوق العقاري ككل. فـ “ديجيتار” ليست مجرد منصة، بل هي أداة تنظيمية ترفع من كفاءة السوق، وتعزز الثقة، وتسرّع من وتيرة المعاملات، وتجذب الاستثمارات الأجنبية، محققة بذلك مستهدفات رؤية 2030 بشكل مباشر.
الرسالة واضحة لكل من يعمل في قطاع التقنية العقارية اليوم: عصر الوساطة الرقمية التقليدية قد انتهى. لقد رفعت الحكومة سقف المنافسة إلى مستوى لم يكن في الحسبان، والبقاء لن يكون إلا لمن يملك المرونة والقدرة على تقديم قيمة حقيقية ومختلفة. فإما التكيف مع القواعد الجديدة، أو التحول إلى مجرد ذكرى في تاريخ السوق العقاري السعودي.