الأراضي البيضاء… بين حق البيع وواجب التهيئة
د. عبدالحكيم بن عبدالله الخرجي
ليست الأراضي البيضاء مساحات صامتة تنتظر التداول، بل هي لحظة اختبار حقيقية لعلاقة المدينة بالتخطيط، ولقدرة السوق على التمييز بين حقٍ أصيل في التصرف، وشرطٍ عادل لممارسته. فالبيع، مهما كان مشروعًا في ذاته، لا يكتمل أثره ما لم يُمارس في توقيته الصحيح، ضمن سياق يجعل الأرض قابلة للحياة قبل أن تكون قابلة للتداول.
إن انتقال الأرض من وصف «البياض» إلى الصلاحية العمرانية لا يتحقق بالاعتماد الورقي وحده، ولا باستكمال الإجراءات الشكلية، بل حين تُستكمل عناصرها الأساسية التي تمنح السكن معنى الاستقرار. الطريق الذي يقود إلى المكان، والشوارع وشبكات المياه والصرف الصحي، والكهرباء، والاتصالات، وتصريف السيول، ليست تفاصيل تُلحق بالمشهد لاحقًا، بل هي بنيته العميقة. وعندما يُفتح باب البيع قبل اكتمال هذه العناصر، لا تختفي الحاجة إليها، بل تُؤجَّل، وتتحول من التزام سابق واضح إلى عبء لاحق يتوزع بصمت.
في الامتدادات الشمالية لمدينة الرياض، وعلى طريق صلبوخ، يتجسد هذا الخلل بوضوح. مبانٍ ارتفعت، وفلل اكتملت، وحياة سكنية بدأت تتشكل، بينما الشوارع لم تكتمل بعد، والخدمات لم تستقر بما يوازي هذا التسارع. البناء حاضر بكثافة، غير أن البنية التحتية لا تزال في موضع اللحاق، وكأن الواقع فُرض عليها لتلبي متطلباته لاحقًا، لا أن تقوده من البداية.
وقد تتحقق المشروعية من حيث الشكل، فتستوفي الأرض متطلبات الاعتماد وتصدر التراخيص وفق الأطر النظامية، غير أن ذلك لا يعني اكتمال شروط العدالة العمرانية. فالفارق جوهري بين السماح بالفعل وبين تهيئة أثره، بيع أرض لم تُهيأ بعد لا يُسقط التزام التهيئة، بل يعيد توزيع كلفته زمنيًا وماليًا، لينتقل من مسؤولية محددة إلى التزام مبهم تتقاسمه الأطراف، وتتحمل المدينة جزءًا غير معلن من تبعاته.
ومع أن هذا المسار قد يبدو في ظاهره محفزًا لحركة السوق وسريع العائد، إلا أن التجربة تُظهر أن ما يُختصر في البداية يُدفع لاحقًا مضاعفًا. فتنفيذ البنية التحتية بعد تشكّل الأحياء يكون أعلى كلفة، وأضعف كفاءة، وأكثر تعقيدًا في التنظيم. ومع تراكم هذه الحالات، لا تبقى استثناءات عابرة، بل تتحول إلى نمط يضغط على التخطيط الحضري ويستنزف الموارد العامة، ويُضعف جودة النمو العمراني على المدى الطويل.
أما الأثر الإنساني، فيتجاوز نقص الخدمة إلى حالة انتظار ممتدة. انتظار طريق أكثر أمانًا، وخدمة أكثر انتظامًا، وبيئة تشعر الساكن بأن المكان قد اكتمل. هذا الانتظار، حين يطول، ينعكس على الثقة في السوق، وعلى العلاقة بالمكان، وعلى معنى الاستقرار ذاته.
ويُتداول – على سبيل الاطلاع لا الجزم – أن هناك توجهًا تنظيميًا في سنوات سابقة كان يشترط استكمال البنية التحتية قبل الترخيص ببيع الأراضي البيضاء. وإن صحّ هذا التوجه أو ثبت بصيغة ملزمة، فإنه يعكس وعيًا تشريعيًا متقدمًا بأن تنظيم السوق لا يكون بتقييد الملكية، بل بضبط توقيت ممارستها، حمايةً للمدينة قبل أن تتحول كلفة الإهمال إلى واقع يصعب إصلاحه. وإن لم يكن هذا الإلزام قائمًا اليوم بصورته الصريحة، فإن الحاجة إليه تظل قائمة من زاوية التخطيط المتزن والمصلحة العامة.
في المحصلة، لا يدور النقاش حول منع البيع ولا تعطيل التطوير، بل حول ترتيب عادل للمراحل. فالأرض التي تُباع قبل أن تتهيأ قد تنتقل ملكيتها، لكنها لا تؤدي وظيفتها العمرانية. والمدينة التي تُبنى على استعجال، تدفع ثمن ذلك بهدوء وعلى مدى أطول. أما التطوير الرشيد، فهو الذي يبدأ من الأرض المهيأة، وينتهي بمدينة أقل كلفة، وأكثر استقرارًا، وأوضح ملامح للمستقبل.
@Dr_alkharji