العودة لوسط المدينة السعودية – ملامح تغيير قادم

العودة لوسط المدينة السعودية - ملامح تغيير قادم

العودة لوسط المدينة السعودية – ملامح تغيير قادم

د. عبدالله ضيف الله

في الستينيات والسبعينيات الميلادية، نمت حول المناطق المركزية للمدن السعودية أحياء سكنية استضافت اللبنة الأولى من السكان المتحضرين الذين عادةً ما يمثلون “التاريخ الديموغرافي” للمكان، مع تزايد نسبة التحضر في مدننا واتساعها، هاجر سكان هذه الأحياء الى المناطق الجديدة لأسباب كثيرة لعل من أبزرها البحث عن مساحات أكبر، رخص الأرض في الأطراف، القروض العقارية بدون أرباح، و”استخدام السيارة الغير مكلف”، قمت بوضع علامة التنصيص على العبارة السابقة لأنها مهمة وسأعرج عليها في آخر المقالة.

اليوم يمكن ان نلخص وسط المدينة السعودي مكانياً كالتالي: مركز مدينة يمثل قلبها التاريخي ويحيط بهذا المركز احياء سكنية ذات صفات “هجين” من الناحية المعمارية والعمرانية أي أنها خليط من العمران التقليدي والعصري، وأيضاً يمكن تعميم حالة هذه الأحياء من الناحية التخطيطية بصفتين أدّعي انها متواجدة في جميع هذه الاحياء بأواسط مدننا:

الأولى: ان هذه الاحياء حاضنة لظاهرة “فجوة الايجار” الشهيرة في ادبيات الاقتصاد الحضري. ملخص هذه الظاهرة هو ان قيمة الايجار الحالي للوحدات السكنية (actual rent) لا يمثل قيمة الايجار الكامن (potential rent) الذي من المفترض ان يكون عليه السوق. فقيمة الايجار الحالية تعتبر منخفضة بحكم ان هذه الوحدات السكنية تقع في منطقة تعتبر هي الافضل مكانياً “وسط المدينة”. ولكن بسبب عدم الاهتمام بها من الناحية الاستراتيجية في الماضي والسمعة السلبية المتراكمة لها ادى الى هذه الفجوة بين القيمتين.

الثانية: متعلق بنوعية السكان الحاليين وعلاقتهم بالحي الذين يعيشون فيه من ناحية الملكية. هناك نوعين من السكان داخل الاحياء عندما ننظر لهم بعين الملكية: المالك المستقر (owner-occupier) والمالك المهاجر (absentee-owner). في الاحياء الهجين بمدننا السعودية تعتبر الغالبية العظمى من السكان تنتمي للمالك المهاجر وهم اصحاب المنازل الاصلية الذين عاشوا قبل ثلاثين عام في الحي وهاجروا الى مناطق جديدة تاركين منازلهم الغير مجددة للمستأجرين.

تواجد هاتين الصفتين في الأحياء الهجين يؤدي في نهاية المطاف إلى رغبة المدن في إعادة أحياءهم بما يسمى بمشاريع التجديد الحضري، ودراسة الصفتين السابقة بشكل معمق هو ما سيحدد طريقة التجديد التي سيتم اتباعها، على سبيل المثال، لو كانت العلاقة الوجدانية بين الملاك المهاجرين والحي السكني قوية فإن الآلية المتبعة للتجديد والأدوات المستخدمة ستختلف عن ما اذا كانت العلاقة ضعيفة وقد تدهورت مع الزمن. على نفس المنوال لو كانت الفجوة عميقة بين الايجار الحالي والايجار الكامن او كانت الفجوة محدودة، فكل سيناريو سيكون له طريقة معينة في التجديد تأخذ بعين الاعتبار هذه الاختلافات السياقية في الحي.

الأسبوع الماضي تم الاعلان عن رسوم سنوية موجهة للسيارات ذات الكفاءة المنخفضة في استخدام الوقود، قبل هذه الرسوم تم الإعلان عن رفع قيمة الفحص الدوري للسيارات وقبل ذلك تم الاعلان عن رفع اسعار البنزين (رغم هذا الرفع ما زالت السعودية هي الارخص في اسعار البنزين عالمياً).

ويمكن التنبؤ أن هناك رسوماً إضافية ستضاف في الفترة القادمة مثل رسوم الازدحام على بعض المناطق الحيوية في مدننا. بالتوازي مع هذه الرسوم، بدأت مشاريع القطارات بالانتهاء في المدن الكبرى وستدخل في الخدمة قريباً, مشاريع الباصات اصبحت مفعلة الان في كثير من المدن بالإضافة الى ان هناك اهتمام واضح بأنسنة المدن القائمة أساساً على فكرة المشي كوسيلة نقل.

هذه الاحداث لم تأتي في هذا الوقت على سبيل الصدفة بل هي خطوات مدروسة الهدف منها – حسب قراءتي الشخصية – هي تنويع منظومة النقل في المدينة السعودية باضافة النقل العام كلاعب رئيسي. ولا يمكن الوصول لهذه النتيجة الا برفع تكلفة استخدام السيارة. هذا التوجه سيعيد وهج اواسط المدن الى الواجهة وسيعيد كذلك مكانتها التاريخية الضائعة. وحسب نظريات التخطيط العمراني المكانية, فان اوساط المدن السعودية – مدعمة بتدشين نظام المترو والباصات – ستسير وفق الخط الزمني لنظريات العمراني نيل سميث وفكرته المتعلقة بدورات الاستثمار واللاستثمار في المدن. فحالة اللاستثمار لاواسط المدن السعودية يبدو انها في زوال وستبدا الان حالة الاستثمار لهذه المناطق.

دكتوراه في التخطيط العمراني

Exit mobile version