نحو مدن أكثر إنسانية: إعادة تشكيل المشهد الحضري ومعالجة التشوه البصري
د. خالد بن سعد الحبشان
تعيش المدن السعودية اليوم لحظة تحول غير مسبوقة، حيث لم تعد التنمية الحضرية تقتصر على البنية التحتية والمشروعات العمرانية الضخمة، بل باتت تلامس الإنسان في تفاصيل يومه، في طريقه إلى العمل، وفي نزهته مع أسرته، وحتى في نظرته إلى رصيف نظيف وحديقة منظمة ومشهد بصري متناسق. هذا التحول يأتي في إطار رؤية المملكة 2030 التي جعلت من جودة الحياة أحد ركائزها الأساسية، ومن الإنسان محورًا لكل تنمية. ومن هنا، جاء التوجه نحو أنسنة المدن كخيار استراتيجي يترجم الرغبة في أن تكون البيئة الحضرية أكثر ملاءمة للعيش، وأكثر انسجامًا مع احتياجات الإنسان النفسية والاجتماعية.
أنسنة المدن تعني ببساطة أن تكون المدينة قريبة من الإنسان، لا فقط عمرانًا مبهراً بل مكانًا يشعر فيه بالراحة والانتماء. ولتحقيق ذلك، تعمل الجهات المعنية في المملكة، وعلى رأسها وزارة البلديات والإسكان، على تطوير مساحات عامة آمنة، وممرات مشاة مظللة، وحدائق خضراء متوزعة، وواجهات عمرانية متناغمة تعكس هوية المكان وتاريخه. هذه الجهود لم تظل حبيسة الأوراق، بل أصبحت واقعًا ملموسًا في عدد من المشاريع مثل الواجهة البحرية في جدة، وممرات المشاة في المدينة المنورة، ومبادرات تطوير وسط الرياض، التي أعادت الحياة إلى قلب المدينة وخلقت فرصًا اجتماعية وثقافية وتجارية جديدة.
ولأن المشهد الحضري هو مرآة تعكس شخصية المدينة، فقد أولت المملكة عناية خاصة بتعزيزه وجعله أكثر جاذبية واتساقًا، سواء من خلال تنسيق الواجهات العمرانية، أو إعادة تنظيم الإعلانات التجارية، أو تحسين تصميم الأرصفة والإنارة والتشجير. ومن اللافت أن هذه التحسينات لا تخدم الجمال البصري فقط، بل ترفع أيضًا من القيمة الاقتصادية للعقار، وتزيد من فرص الاستثمار، وتعزز الشعور بالفخر والانتماء لدى السكان. وما يحدث في الرياض والدمام وأبها ليس أقل شأنا من نماذج عالمية مثل كوبنهاغن أو سنغافورة، حيث أصبحت المدينة أداة للتنمية المستدامة وبيئة محفزة للإبداع.
وفي موازاة ذلك، تسير المملكة بخطى ثابتة لمعالجة التشوه البصري، باعتباره أحد أبرز التحديات التي تؤثر على راحة السكان وصورة المدينة. فقد أطلقت الدولة مبادرة وطنية شاملة لتحسين المشهد الحضري، شملت إزالة اللوحات العشوائية، وتنظيم الأرصفة، ومعالجة المباني المهجورة، وتجميل الفضاءات العامة. هذه المبادرات انعكست بشكل مباشر على تحسين البيئة العمرانية، وأسهمت في خلق أحياء أكثر نظافة وتنظيمًا، وأكثر استقطابًا للعائلات والمستثمرين والسياح. والمواطن نفسه أصبح شريكًا في هذا التحول، عبر استخدام التطبيقات الذكية للإبلاغ عن مظاهر التشوه والمشاركة في مراقبة جودة المشهد العام.
إن التجارب المحلية في السعودية توازي في جودتها طموحات وتجارب عالمية ناجحة. فكما أعادت سيؤول في كوريا الجنوبية تشكيل نسيجها الحضري بطرق إنسانية ذكية، وكما نجحت دبي في خلق بيئة عمرانية متناغمة بين الحداثة والتراث، فإن مدن المملكة تضع اليوم معايير جديدة لكيف تكون المدينة مكانًا للعيش، لا مجرد مساحة للسكن. والطموحات لا تتوقف هنا، فبحلول عام 2030 من المتوقع أن تختفي معظم مظاهر التشوه البصري في المدن السعودية، وأن تتكامل عناصر المشهد الحضري لتخلق هوية جمالية متفردة لكل مدينة، وأن تُصبح المساحات العامة أماكن للالتقاء والإلهام، لا مجرد فراغات مهملة.
لضمان استمرار هذا التحول الإيجابي، من المهم تعزيز المشاركة المجتمعية في تخطيط الأحياء وتصميم المرافق، وتشجيع المطورين العقاريين على تبني المعايير الجمالية والبيئية، وتقديم حوافز للمشروعات التي تسهم في أنسنة المدينة، إلى جانب تطوير أنظمة ذكية لرصد التشوهات والاستجابة لها بسرعة. فالمستقبل الذي ننتظره هو مدن خضراء، جاذبة، نابضة بالحياة، يعيش فيها الإنسان بكرامة وطمأنينة.
مدننا السعودية اليوم تتغير ليس فقط في شكلها، بل في روحها، وهي تمضي بثقة نحو واقع حضري يجعلها من بين الأفضل عالميًا في جودة الحياة والابتكار العمراني. هذه ليست وعودًا، بل خطوات عملية نراها على الأرض كل يوم، ونتطلع إليها بثقة أكبر في الغد.
مستشار في حوكمة الشركات وتنظيم الاستثمار العقاري
@AlhabshanDr