بينما تتغير ملامح السوق العقارية بوتيرة متسارعة، وتزداد تعقيدًا بفعل تطور أدوات التحليل الرقمي، يبرز سؤال جوهري في أذهان المستثمرين والمطوّرين والمقيمين العقاريين على حد سواء: أيهما أكثر دقة وجدوى في تسعير العقارات وتحديد قيمتها السوقية؟ التقييم العقاري التقليدي القائم على الخبرة البشرية، أم التقييم الرقمي المدعوم بالتكنولوجيا والذكاء الاصطناعي؟
هذا الجدل لم يعد نظريًا، بل أصبح واقعًا ملموسًا في الكثير من الأسواق العالمية والعربية، مع تزايد اعتماد الجهات التمويلية والمستثمرين على المنصات العقارية الذكية، وتراجع الثقة في بعض التقييمات البشرية التي تأثرت بالعوامل الذاتية، أو التفاوت الكبير في معايير التقييم من مكتب إلى آخر.
التقييم التقليدي… خبرة تمتد لعقود ولكن!
لطالما اعتمد التقييم العقاري التقليدي على عنصر أساسي: الخبير المثمّن. هذا الشخص الذي يجمع بين معرفة السوق، والمعاينة الميدانية، والاطلاع على خصائص العقار، وظروف الحي، والأسعار المقارنة. وفي الأسواق الناشئة، ما زال لهذا النوع من التقييم الدور الأكبر، خصوصًا في حالات التقييم لأغراض قانونية أو مصرفية.
لكن يواجه هذا النوع من التقييم تحديات كبرى، أهمها:
التحيز البشري: حيث قد تؤثر آراء المثمّن أو تقديراته الشخصية على القيمة النهائية.
تفاوت المعايير: تختلف طرق التقييم من خبير لآخر ومن شركة لأخرى، ما يؤدي إلى نتائج متباينة أحيانًا.
الزمن والتكلفة: يحتاج التقييم التقليدي وقتًا أطول وتكلفة أعلى مقارنة بالحلول التقنية.
ورغم ذلك، يرى كثير من الخبراء أن هذه الطريقة لا تزال ضرورية في الحالات التي تتطلب فهماً نوعياً لخصائص العقار لا يمكن للأنظمة الرقمية إدراكه، مثل الحالة الفيزيائية، أو طبيعة البناء، أو الجوانب القانونية.
التقييم العقاري بالتكنولوجيا… خوارزميات لا تنام
على الجانب الآخر، جاء التقييم العقاري المعتمد على التكنولوجيا – خصوصًا الذكاء الاصطناعي وتحليلات البيانات الكبيرة (Big Data) – ليقدّم بديلاً أكثر سرعة، وأكثر موضوعية، في كثير من الأحيان.
تعتمد هذه الأنظمة على دمج كم هائل من البيانات مثل: أسعار الصفقات السابقة، وحجم العرض والطلب، والبيانات الجغرافية للموقع، ومؤشرات الاقتصاد المحلي، وحالة السوق في الوقت الفعلي. ومن خلال هذه المدخلات، تستطيع الخوارزميات تحديد قيمة العقار خلال ثوانٍ، مع إرفاق تقارير مفصلة تتضمن مقارنات مباشرة وتحليلات متقدمة.
مزايا التقييم التقني:
يقدم التقييم العقاري عبر استخدام التطبيقات التكنولوجية الحديثة العديد من المزايا منها:
السرعة: النتائج فورية أو خلال دقائق.
الاتساق: تطبيق نفس المعايير على جميع العقارات دون تحيّز.
القدرة على التحديث اللحظي: النظام يتأقلم مع تغيّرات السوق بشكل مباشر.
التكلفة الأقل: مقارنةً بالتقييم الميداني التقليدي.
لكن التقنية ليست بلا عيوب. فالتقييم الرقمي قد يغفل عن بعض الجوانب غير الكمية، مثل جودة التشطيب، أو مشاكل قانونية لا تظهر في البيانات، أو حتى القيمة الرمزية لبعض المواقع العقارية.
وفي المملكة العربية السعودية، ساهم إطلاق الهيئة السعودية للمقيمين المعتمدين منصة “قيم” الرقمية في توفير تقييم عقاري آلي للمستخدمين، ما أحدث نقلة نوعية في شفافية السوق العقارية، وساهم في دعم الجهات التمويلية والمشتري النهائي في اتخاذ قرارات أفضل. ومع ذلك، ما زالت بعض البنوك تُفضل الجمع بين التقييم الرقمي والتقييم التقليدي عند منح التمويل.
أيهما أكثر دقة؟
يرى خبراء عقاريون أن التقييم العقاري لن يكون دقيقًا تمامًا ما لم يُدمج بين الإنسان والتقنية”، وذلك لأن رغم قدرة الخوارزميات الجيدة في تحليل السوق، لكن لا يمكنها فهم الرمزية أو الخصوصية العقارية لمناطق معينة، وهنا تأتي ضرورة العنصر البشري. كما يؤكدون أن الذكاء الاصطناعي لن يلغي المثمّن العقاري، بل سيمنحه أدوات أقوى لتقديم تقييم دقيق وشامل. الدمج هو المستقبل.
رغم المفاضلة الدائرة بين التقييم العقاري التقليدي والتقني، فإن الحقيقة الأوضح اليوم هي أن مستقبل التقييم يتجه نحو الدمج الذكي بين الإنسان والخوارزمية. فالتقنية توفّر السرعة والدقة الرقمية، بينما يقدّم الخبير البشري البُعد النوعي والخبرة الميدانية.
وفي نهاية المطاف، فإن أدق تقييم هو ذاك الذي يجمع بين ذكاء الإنسان وسرعة الآلة، ويوظف كل أداة بما يليق بها. ومع تطور الأنظمة الذكية وقدرة السوق على تبني هذه الأدوات، يبدو أن الثورة القادمة في سوق العقارات لن تكون في المباني… بل في كيفية تسعيرها.