التشريعات والأوامر تدفعان السوق العقاري نحو التوازن والاستدامة
الدكتور خالد بن سعد الحبشان
شهد السوق العقاري في المملكة العربية السعودية خلال السنوات الأخيرة تحولًا جذريًا لم يكن وليد الصدفة، بل جاء نتيجة رؤية استراتيجية واضحة تبنتها الدولة لتعزيز بيئة استثمارية آمنة ومنظمة ومستدامة، هذا التحول بدأ من فهم عميق لحاجة السوق إلى تشريعات أكثر مرونة وانضباطًا، وإلى مؤسسات تنظيمية تواكب تسارع التنمية العمرانية والاقتصادية، ولذلك، لم تتوقف الجهود عند سن الأنظمة فقط، بل تعدتها إلى إنشاء جهات متخصصة، واعتماد أدوات نظامية قادرة على مواكبة الطفرة العقارية التي تشهدها المملكة ضمن مستهدفات رؤية 2030.
تحديث البنية النظامية والتنظيمية للقطاع العقاري
ففي إطار هذه الرؤية، أولت الدولة اهتمامًا بالغًا بتحديث البنية النظامية والتنظيمية للقطاع العقاري، فتم إصدار عدد من الأنظمة الجوهرية مثل نظام التسجيل العيني للعقار، الذي يعد نقلة نوعية في توثيق الملكيات العقارية والحد من النزاعات. كما تم تطوير نظام الوساطة العقارية، مما ساهم في ضبط سوق الوسطاء وتوفير بيئة أكثر شفافية بين البائع والمشتري، وهو ما انعكس بشكل مباشر على موثوقية السوق وزيادة ثقة المستثمرين سواء المحليين أو الأجانب.
ومن أبرز الجهات التي أُنشئت لتحقيق هذا التحول، الهيئة العامة للعقار، التي تولت مسؤولية تنظيم وتطوير السوق العقاري والإشراف على تطبيق الأنظمة ذات العلاقة بالإضافة إلى دورها المحوري في إعداد السياسات واللوائح التنفيذية التي تسهم في تحقيق التوازن بين العرض والطلب. كما أطلقت وزارة العدل بالتعاون مع الهيئة منصة «إفراغ» الرقمية، التي سهلت عمليات نقل الملكية العقارية إلكترونيًا، وقللت من الاعتماد على الإجراءات الورقية التقليدية، مما أسهم في تسaريع عمليات البيع والشراء وخفض معدلات التلاعب.
تعزيز أدوات التوثيق والرقابة
ولأن الاستثمار العقاري يمثل ركيزة اقتصادية مهمة، فقد حرصت الدولة على تعزيز أدوات التوثيق والرقابة من خلال مبادرات مثل منصة «إحكام» التي أدت هدفها الرامي إلى حصروتوثيق الأراضي غير المسجلة، وتصحيح أوضاع التملك بما يتوافق مع الأنظمة العدلية والتنظيمية، وهو ما أوجد حلولًا واقعية لقضايا عقارية مزمنة كانت تمثل عائقًا أمام المستثمرين والمطورين على حد سواء.
كما تم اعتماد نظام ملكية الوحدات العقارية وفرزها وإدارتها، الذي يُعد أداة تنظيمية مهمة لتنظيم العلاقة بين ملاك الوحدات المشتركة، وحماية الحقوق، وتحديد المسؤوليات، مما رفع من جودة حياة السكان، وعزز من قدرة المطورين على تسويق مشاريعهم وفق أطر قانونية واضحة ومُلزمة.
وإيمانًا بأهمية الشفافية، تم تطوير «مؤشر عقاري» يُحدّث بشكل دوري ويعرض تفاصيل دقيقة حول الأسعار والمعاملات في مختلف المدن والمناطق، مما أتاح للمستثمرين وصناع القرار بيانات موثوقة تساعدهم على اتخاذ قرارات مدروسة مبنية على معطيات واقعية.
فرص أمام المطورين والمستثمرين
ولعب القطاع الخاص دورًا محوريًا في دفع عجلة التطوير العقاري، حيث بات شريكًا رئيسيًا في تحقيق مستهدفات الدولة من خلال تقديم مشاريع نوعية، واستثمارات ضخمة، وحلول مبتكرة في مجالات الإسكان والتطوير التجاري والسياحي. وقد أتاحت البيئة التنظيمية الجديدة الفرصة أمام المطورين والمستثمرين لتوسيع أنشطتهم بثقة، في ظل وضوح الإجراءات ووجود ضوابط عادلة تحمي الجميع. كما ساهمت الشراكات بين الجهات الحكومية والمطورين العقاريين في تسريع تنفيذ المشاريع الكبرى، وتحقيق التنوع في المنتجات العقارية لتلبية احتياجات جميع شرائح المجتمع.
ورغم هذه التطورات الإيجابية، لا يخلو السوق العقاري من تحديات قائمة، أهمها تباين الأسعار بين المناطق، وصعوبة تملك السكن لشريحة من المواطنين في بعض المدن، إضافة إلى محدودية المعروض من الأراضي المطورة في بعض المواقع الحيوية، مما يفرض ضغوطًا على الأسعار. كما يواجه السوق تحديات تتعلق بسرعة استجابة بعض الجهات الخدمية والتكامل بين الأنظمة التقنية، وهو ما يتطلب استمرار العمل على تحسين الإجراءات، وتحقيق الربط الإلكتروني الكامل، وتوفير بيانات دقيقة تُمكن المستثمر من الرؤية المستقبلية.
وقد شهد السوق العقاري في الآونة الأخيرة خطوات جريئة ومؤثرة، من أبرزها ما وجّه به سمو ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، حفظه الله، بشأن فك حجز الأراضي البيضاء في شمال الرياض، وتحديد سقف تسعيري للمتر لا يتجاوز ١٥٠٠ ريال، في خطوة استراتيجية تهدف إلى كسر الاحتكار وتعزيز المعروض، مما أدى إلى انخفاض ملحوظ في أسعار العقارات وصلت في بعض المناطق إلى ما يقارب ٥٠٪ مقارنة بالسعر السابق، كما سجلت مناطق الشمال انخفاضًا إضافيًا تجاوز ٢٠٪، مما أعاد التوازن تدريجيًا للسوق، وفتح الباب أمام شريحة أكبر من المواطنين لتملك السكن.
وفي خطوة داعمة أخرى لتحفيز السوق وتنويع مصادر الاستثمار، أصدر مجلس الوزراء قبل أيام قرارًا يتيح للأجانب تملك العقارات في المملكة بشروط واضحة ومنظمة، وهو قرار يُنتظر أن يسهم في جذب رؤوس أموال أجنبية جديدة، وتحريك السوق العقارية، خاصة في المدن الكبرى والمناطق السياحية، بما يعزز مكانة المملكة كوجهة عقارية واستثمارية واعدة على المستوى الإقليمي والدولي.
مميزات التجربة السعودية
إن ما يميز التجربة السعودية في تنظيم السوق العقاري ليس فقط قوة الأنظمة، بل تكامل الجهود بين الجهات الحكومية، وتبني أحدث التقنيات الرقمية، وتوفير بيئة محفزة للمستثمرين قائمة على العدالة وتكافؤ الفرص، مما جعل المملكة بيئة عقارية واعدة تتمتع بجاذبية متزايدة على المستوى الإقليمي والدولي.
وفي ظل هذه المعطيات، لم يعد التنظيم العقاري عبئًا أو عائقًا كما كان يُتصور في السابق، بل أصبح هو الأداة الأهم لبناء سوق مستقر، يقلل من المخاطر، ويعزز من فرص النمو. فالتنظيم لم يعد مجرد لوائح، بل أصبح وسيلة لتوزيع الفرص بشكل عادل، وفتح المجال أمام القطاع الخاص للإبداع والمنافسة ضمن إطار قانوني واضح ومستقر.
ومع استمرار جهود الدولة في تحديث الأنظمة وتفعيل الرقابة، وتمكين الجهات التنظيمية من أدوات فعالة، فإن السوق العقاري السعودي ماضٍ نحو مرحلة جديدة من النضج، يتسم بالتوازن والشفافية، ويؤسس لبيئة استثمارية هي الأفضل في المنطقة، ويجعل من العقار ليس فقط ملاذًا آمنًا، بل مسارًا استثماريًا ذكيًا ومستدامًا لكل من يفهم النظام ويقرأ توجهاته.
@AlhabshanDr