التركات العقارية المتعثّرة: من الجمود إلى التنمية المستدامة
د. عبدالحكيم بن عبدالله الخرجي
تمثّل التركات العقارية المتعثّرة أحد أكثر الملفات تعقيدًا وتأثيرًا في المشهد الاقتصادي والعقاري، ليس فقط بسبب ما تحتويه من أصول عالية القيمة، بل بسبب ما تفرضه من جمود طويل الأمد يُخرج مساحات واسعة من الأراضي والعقارات من دورة الإنتاج والاستثمار. فحين تتوقف التركة، لا يتوقف الإرث وحده، بل تتوقف معه فرص تطوير، وتتعطل مشاريع، وتُستنزف المنظومة العدلية، وتُحبس ثروة كان يمكن أن تسهم في تحريك السوق وتعزيز النمو.
وتكمن خطورة هذا الملف في طبيعته المركّبة؛ إذ تتداخل فيه الاعتبارات العائلية مع التعقيدات القانونية، وتتقاطع فيه الحقوق الخاصة مع المصالح العامة، فالتركة العقارية ليست مجرد ملكية تنتقل بين أجيال؛ بل كيان اقتصادي له أثر مباشر في المعروض العقاري، وفي كلفة التطوير، وفي التخطيط الحضري. وكلما طال تعثرها، تضاعفت خسائرها الصامتة على الورثة وعلى الاقتصاد معًا.
وفي خضم هذا الواقع، يتضح أن المعالجة التقليدية — القائمة على انتظار التوافق أو الاكتفاء بالحماية القضائية — لم تعد كافية. فالقضية لم تعد سؤالًا عن “من يملك”، بقدر ما أصبحت سؤالًا عن “كيف يُدار الأصل، ومتى يُصفّى، وبأي أدوات تُحفظ قيمته ويُعاد ضخه في الاقتصاد”.
وهنا يبرز محوران جوهريان، تمثلان قلب أي حلّ حقيقي للتركات العقارية المتعثّرة: الإدارة أولًا، ثم التصفية بوصفها نتيجة طبيعية لإدارة صحيحة.
فالتركة التي لا تُدار، لا يمكن أن تُصفّى بكفاءة، والتصفية التي تُطرح قبل ضبط الإدارة، غالبًا ما تتحول إلى نزاع جديد بدل أن تكون حلًا. ومن هذا المنطلق، فإن إعادة ترتيب الأولويات تُعدّ ضرورة منهجية، تبدأ بإدارة محترفة تُعيد للأصل حركته، وتنتهي بتصفية عادلة تُنهي التعثر دون استنزاف.
إن إدارة التركات العقارية لا تعني مجرد حفظ المال أو منع التعدي عليه، بل تعني تشغيله، وتنميته، وضبط تدفقاته المالية، وإعادة ترتيب أوضاعه النظامية، وهنا تتجلى أهمية الانتقال من مفهوم “الحراسة” إلى مفهوم “الإدارة”. فالحراسة تحمي الأصل، لكنها لا تطوره، ولا تستثمره، ولا تهيّئه للتصفية الذكية. أما الإدارة، فهي التي تنظر إلى التركة بوصفها أصلًا منتجًا يجب أن يعمل حتى أثناء النزاع، لا أن ينتظر نهايته.
ومن أكثر النماذج قدرة على تحقيق هذا التحول، إدارة التركات عبر صناديق مستقلة أو كيانات متخصصة، تُمنح صلاحيات واضحة لإدارة الأصول العقارية للتركة إدارة كاملة، سواء بالتشغيل أو التطوير أو الاستثمار أو إعادة الهيكلة، هذه الصناديق لا تنتقص من حقوق الورثة، بل تحميها من التآكل، وتمنع ضياع القيمة بسبب الزمن وسوء الإدارة، وتوفّر قدرًا عاليًا من الشفافية والانضباط المالي.
ومن خلال هذا النموذج، يمكن للتركة أن تتحول من أصل جامد إلى مشروع يعمل: تُشغَّل العمائر بدل إغلاقها، وتُطوَّر الأراضي البيضاء بدل تركها عرضة للرسوم والتآكل، وتُستكمل الصكوك والإجراءات النظامية بدل بقائها عالقة في مسارات متشعبة. وبهذا، تُعاد التركة إلى قلب الاقتصاد، لا إلى هامشه.
ولا يقف أثر الإدارة الاحترافية عند حدود الحفاظ على القيمة؛ بل تمتد آثارها إلى تحريك السوق، وزيادة المعروض، ودعم مشاريع الإسكان، وتخفيف الضغط على الأسعار، فضلًا عن تقليل النزاعات القضائية التي تنشأ غالبًا من غياب الإدارة ووضوح الرؤية.
أما التصفية، فهي المرحلة التي تتوّج الإدارة الناجحة، لا تلك التي تُفرض قبلها. والتصفية في التركات العقارية المتعثّرة لا ينبغي أن تُختزل في البيع القسري أو القسمة المتعجلة، بل يجب أن تُفهم بوصفها عملية منظمة تهدف إلى فك الارتباط بين الورثة بأقل كلفة زمنية ومالية ممكنة، مع الحفاظ على العدالة والقيمة.
وهنا تبرز حلول غير تقليدية، أثبتت فاعليتها متى ما سُبقت بإدارة صحيحة. وفي مقدمتها التخارج، سواء بين الورثة أنفسهم أو مع أطراف من خارجهم. فالتخارج ليس مجرد تنازل، بل أداة قانونية مرنة تسمح بإنهاء الشيوع، وتخفيف النزاع، وتمكين الأصل من الاستقرار. لكن نجاح التخارج مشروط بتوافر إدارة موثوقة تُقيّم الأصل تقييمًا عادلًا، وتدير العملية بشفافية، وتضمن أن يتم فك الارتباط بسلاسة ودون غبن.
كما يمكن للتصفية أن تتم عبر حلول تمويلية ذكية، تتيح لأحد الورثة شراء حصص الآخرين، أو عبر إدخال مستثمرين ضمن هيكل منظم، أو من خلال تحويل التركة إلى كيان استثماري تُوزّع حصصه بوضوح قبل الخروج النهائي. وكل هذه المسارات لا تُثمر إلا إذا سبقتها إدارة تضبط الأرقام، وتكشف القيمة الحقيقية للأصل، وتمنع التقديرات العشوائية التي تُفجّر النزاع بدل أن تحلّه.
وتتكامل هذه الحلول مع أدوات اقتصادية ومالية أخرى، كإطلاق صناديق استثمار عقاري مغلقة تُعنى بالتركات المتعثّرة، وربط التركات بالأطر التنظيمية للأراضي البيضاء بوصفها حافزًا للتطوير لا عقوبة، إضافة إلى بناء قواعد بيانات وطنية ومنصات إلكترونية تُسهّل إدارة التركات ومتابعتها وتقلّل من التعقيد الإجرائي.
وفي المحصلة، فإن التركات العقارية المتعثّرة ليست مسألة ورثة فقط، بل قضية تنموية شاملة. ومعالجتها تتطلب انتقالًا واعيًا من منطق الانتظار إلى منطق الإدارة، ومن الحماية الساكنة إلى التفعيل المنتج، ومن التصفية القسرية إلى التصفية الذكية.
وحين تُدار التركة قبل أن تُصفّى، تتحول من عبء معطّل إلى أصل نامٍ، وتتحول النزاعات من صراعات مفتوحة إلى مسارات حلّ منضبطة، وتتحقق معادلة صعبة لكنها ممكنة: حفظ الحقوق، وتحريك الاقتصاد، وبناء تنمية عقارية مستدامة.
@Dr_alkharji