كتب: أيمن الجند*
يتبادر إلى الذهن منذ الوهلة الأولى لانطلاق الحفل الغنائي المهيب حجم الإنفاق وفخامة القائمين عليه والمشاركين في إنجاحه ولعل أهم ما يبدو ظاهراً للعيان هو الفرقة الموسيقية بتعدد آلاتها وعازفيها ومستوى الأداء السيمفوني المنظم والذي لو شذ عن المسار لثانية واحدة لفهم الجمهور المتذوق أي هفوة قد يقع فيها عضو من القائمين على العمل.
لكن الأكثر ملاحظةً واندهاش هو رؤية الشخص الذي يقود هذه الفرقة وينظمها بإبداع متناهــٍ في الدقة لدرجة أنه قد يضبط إيقاعات التفاعل مع الجمهور ويشركه معه في اطار اللحن الخاص بالأغنية والاحتفال كما حدث في بعض الفعاليات العالمية،ورغم قلة المجهود الظاهر عليه أثناء الحفل لكنه يمتلك أدوات بسيطة ونوعية للإدارة تنم عن ثقة وخبرة ومعرفة بكل تفاصيل الحفل كما لايجب أن نتغافل عنالتنظيم والإعداد الذي تم في الكواليس حيث يعتبر السبب الرئيس في تقديم عمل فني متكامل للجمهور. .
هذا الشخص يدعى بالمايسترو وهذه الفرقة الموسيقية تسمى الأوركسترا وقد تتراوح الأعمال من مقطوعات عالمية مشهورة إلى حفل غنائي معتاد وقد تتكون من ثمانين عازفاً وقد تقتصر على ثمانية فقط. .
لعلي قد أطلت الحديث تشويقا فالعنوان يشد القارئ إلى عالم آخر غير الفن الغنائي أساساً، ولكن لارتباطها الفكري والتنسيقي من حيث المبدأ فقد ارتأيت استخدام هذا التشابه الجميل والعميق بينهما أما عن الموضوع فهو مهني تخصصي اعتاد رواده على تقديمه بطرق متنوعة وارتجالية في كثير من الأحيان دون العودة إلى ذات التنظيم الحاصل عند اعداد مقطوعة فنية.
ومع أن الجمهور المستهدف في عالم التطوير العقاري هو ذات المواطن أو الحضور الذي يرغب في مبنى ومسكن يلبي تطلعاته وذائقته الخاصة بل يتعدى ذلك إلى الاهتمام بمؤثرات أخرى لها علاقة بالبيئة المحيطة عمرانياً وجغرافياً وبيئياً.. فالمايسترو هنا هو المطور العقاري الذي يوكل إليه صناعة النجاح المتكامل والاوركسترا هي أطراف العمل الهندسي من مقاول ومصمم ومشرف ومورد والمتعاقدين في المشروع. . ومع أن سلبيات كل عضو في الفريق قد تقع عليه منفرداً لكن في النهاية يعود اللوم على المطور العمراني الذي أنشأ الفكرة وجمع الأطراف في مشروع واحد.
وكما يشترط على المايسترو أن يكون ملماً بالخبرة والتجربة وفهم الآلات والنوتة الموسيقية كاملة فيجب على المطور فهم كافة جوانب العمل الهندسي بشكل متكامل ومتجانس ويجب على الجميع التدرب باحترافية لكي تتناغم ومستوى المخرجات المنشودة.
في الموسيقى يهمنا إخراج أغنية أو مقطوعة تسعد الجمهور وتطربه وكذلك في العمران يهمنا إخراج مبنى يسعد المواطن والعميل ويطرب ذائقته ومتطلباته وكذلك يراعي كل الاعتبارات المتعلقة مجتمعياً وبيئياً.
لدى المايسترو نوتة موسيقية متكاملة فيها كل ما لدى العازفين من نوت،ومن واقع خبرة طويلة في الموسيقى يسهل على المايستروقراءة النوتة وترتيب الأماكن والوقفات والحركات بإتقان، وفي العمران يجب أن يكون لدى المطور إلمام وتوثيق لكافة مراحل العمل التي سيقومون بها منذ اليوم الأول عبر نمذجةوتصور افتراضي لمعلومات المباني وذلك لبدء المشروع فالمصمم يجب أن يعرف ما يحتاجه الاستشاري والمقاول وما يتطلبه العميل وما ينشده الوطن للبيئة العمرانية ، وفي العمران يجب على المطور احكام خيوط العمل بإتقان مع الأطراف لضمان ديمومة النجاح حتىآخر لحظة لتسليم العميل واستقراره.
وهنا استحضر نمذجة معلومات البناء او ما يسمى BIM والذي يرتبط بنفس متطلبات النوتة الموسيقية إلى حد كبير فإذا سعى المطور إلى نمذجة معلومات بنائه بطريقة تقنية موحدة يجمع عليها المعماريين والمدنيين والالكتروميكانيك عبر برامجها المتخصصة وخبرائها المختصين سيجد أن ما بنى عليه أي خط او فكرة في البداية عند التصميم سيراها في نهاية المطاف وأثناء العمل كافة القائمين على العمل بمن فيهم العميل.
إن نمذجة معلومات المباني تسعى لخلق تصور سهل وتواءم جميل بين أطراف العمل منذ اليوم الأول وتسهل على الجميع استحضار الصورة النهائية للعمل على البرنامج التقني قبل اسقاطه على الطبيعة ولايتم البدء الفعلي والميداني حتى تجمع عليه الأطراف ويتم تخيل المبنى بأكثر من خيار وتجربة ذلك وإقناع العملاء به.
وفي حال التطبيق يجب على الجميع استقاء المعلومات منه وأيضا على المطور الاعتماد الكلي عليه في ادخال البيانات واستخراج التقارير والاحصائيات التي يتم رفعها للجهات ذات العلاقة وبالتالي فإمكانيةالخطأ تقل الى مستويات دنيا ويتم تلافيها في وقت مبكر اذا ظهرت وبأقل التكاليف ولنثق جميعاً بأنه مثلما يتم زيادة أي تكاليف على العمل بمجرد صدور قوانين متعلقة او تغير في منظومة الأسعار فان أي زيادة في تكلفة المبنى بسبب تطبيق المنهجية هي هامشية مقارنة بالعوائد المجتمعة من تطبيق هذا المنهج ولنا في المملكة المتحدة في هذا الشأن المرجعية الكبرى ومقدار الوفر الملياري الذي تحقق في سنوات بسيطة جعل من بعض الدول العربية تبادر بالتطبيق ولكن بشكل طفيف أما عن المملكة العربية السعودية فقد بادرت حالياً وافتتحت مشاريع صندوق الاستثمارات العامة باشتراط العمل على هذه المنهجية منذ اليوم الأول للتصميم ولا يتم قبول أي مطور او مقاول الا اذا تعهد باستخدام منهجية الBIM في المشروع وعن الامارات العربية المتحدة فقد قطعت شوطا كبيرا في ذلك ووصلت الى عمل المعايير اللازمة للمنهجية ضمن متطلبات الايزو واشتراط تطبيق المنهجية على المباني وفق ارتفاعات معينة وتكاليف محددة ، وعن مملكة البحرين فالعمل يسير بخطى جيدة لتأسيس المبادرات الداعمة لذلك والتعاون مع الجهات الحكومية والخاصة لعمل خارطة طريق واضحة للمنهجية في سبيل الإسراع في التطبيق ، ولذلكيجب على الجميع العمل على تهيئة انفسهم ومكاتبهم لبناء وحدة مخصصة لهذا العمل لما فيها من الخير الكبير .
والحديث هنا يطول لكن أحببت أن نضع لبنة مهمة من لبنات العمل المنظم والتطويري المتكامل الذي لايجب أن يلام أي أحد في الأخير سوى المطور الذي يجب عليه أن يحافظ على العمل من أي معوقات واختلالات كما هو اللوم على المنتج الفني عندما يتلقى كلمات أغنية ركيكة ويضع لها لحن لا يليق أو فيه ضعف فالختام سيكون بالطبع عزوف الجمهور عنه وفشل الأغنية حتماً أو على الأقل اكتساب سمعة سيئة تلاحقه. . وإذا كانت الكلمات جميلة وذات ذائقة أدبية واللحن جميل ولكن المايسترو غير متواجد أو ليس لديه خبرة فستجد أن هناك حلقة مفقودة تستلزم تجديدا في الأداء وتنظيما آخر قد يتم إسعاف الوضع وتنظيمه.
وفي الختام أؤكد أن النوتة هي نمذجة متكاملة للبيانات في قالب موحد يستقي منه الجميع كافة الرؤى والأهداف ويمضون بناء عليها كما يجب إشراك كافة أصحاب المصلحة منذ اليوم الأول للعمل وتجهيز مايسترو عمراني يعرف كيف يدير ويربط كل هذه الأطراف بحكمة متناهية وحصيفة للوصول إلى منتج يسعد العميل ويخرجون من المشروع جميعا منطربين لما تم عزفه من إيقاعات. .
فيما يلى مقارنة تقريبية بين المصطلحين في عالم الفن الغنائي والتطوير العمراني :
م | المرحلة | أوركسترا الاغنية | اوركسترا التطوير العمراني |
1 | الفكرة | كلمات/لحن المقطوعة | تصميم المشروع والدراسات وعناصر المشروع |
2 | المتطلبات | قاعة الحفل المجهزة | أرض المشروع والتصاميم والحسابات الهندسية |
3 | الأطراف | الكاتب والملحن والعازفين | المطور والمصمم والاستشاري والمقاول |
4 | التمويل | دعم مالي للإنتاج | دعم مالي للتطوير |
5 | الاعلام | اشهار الاغنية إعلاميا والحديث عنها وعن المشاعر التي تغنى بها | الحديث عن المشروع والترويج له في الاوساط |
6 | التسويق | استخدام الوسائل المساعدة إعلامياً ونشر المقطوعة في احتفالات واشرطة | اعداد البروشورات والحملات والتسويق الرقمي الخ.. |
7 | التنفيذ | التعاقد مع منتج للحفل | التعاقد مع مقاول ومكتب استشاري |
8 | الاشراف | التعاقد مع مدير للحفل | التعاقد مع مكتب هندسي اشرافي |
9 | الإدارة | عمل لجنة لتسيير أمور الحفل ما قبله واثناؤه ومابعده | تشكيل لجنة هندسية للمتابعة وتمثيل الأطراف |
10 | التقنيات | استخدام التقنيات والآلات الحديثة والمونتاج وأدوات معالجة الصوت | استخدام تقنيات البناء والتشييد والتوثيق وتشطيب المبنى |
11 | القيمة المضافة | المشاعر المتدفقة والاحساس العالي والاقبال على ربطها بالمواقف والذكريات | التصميم المناسب للعائلة واستغلال المساحات وتكوين بيئة داخلية مريحة والسعر المتوائم مع الجمهور المستهدف مع وضع خيارات الشراء المناسبة.. بالإضافة لضمان المنتج |
12 | الختام | استبيان رضا الجمهور واطلب إعادة الحفل في اكثر من منطقة | تسليم المشروع للمستخدم والرغبة عبر استبيانلإعادة تنفيذ مشروع مشابه .. |
13 | العميل | رضا الجمهور بالتصفيق الحار وترديد كلمات الاغنية واستخدامها في المناسبات والمواقف | توصيات العملاء عبر التواصل وجلب عملاء جدد لمشاريع جديدة مماثلة |
14 | الدروس المستفادة | اخذ التغذية الراجعة عن الحفل ومكوناته والعمل على تحسينها عند الحفل القادم | الاستفادة من الملاحظات في تلافيها عند المشاريع الجديدة ومحاولة استرضاء العملاء الحاليين وتنظيم آلية اصلاح الخلل أينما وجد . |
*شريك مؤسس في تطبيق عاين ورئيس شركة اتقان للتطوير في البحرين