نقل البورصة إلى «هيئة العقار».. بداية لسوق أكثر شفافية
د. عماد العبد الرحمن
يمثل إعلان وزير العدل اكتمال الخطوات اللازمة لنقل البورصة العقارية من وزارة العدل إلى الهيئة العامة للعقار تحولاً مفصلياً في تاريخ السوق العقارية السعودية. فالخطوة لا تتعلق بإعادة توزيع أدوار بين جهتين حكوميتين فحسب، بل تُعد انتقالاً نحو نموذج أكثر نضجاً وشفافية في تداول الأصول العقارية، وبنية تنظيمية تمهّد لتأسيس سوق استثماري متطور قادر على استيعاب النمو المتسارع للقطاع.
ويأتي القرار في مرحلة تتسارع فيها حركة التطوير العمراني والإنفاق الحكومي على البنية التحتية، فيما ترتفع مساهمة القطاع العقاري في الناتج المحلي عاماً بعد آخر، ويزداد حجم التداول بصورة غير مسبوقة. هذا الحراك الاقتصادي جعل الحاجة ملحّة لوجود منصة تداول عقارية تعمل بمعايير موحدة، وتقدم بيانات شفافة، وتدعم قرارات المستثمرين بتقارير لحظية قادرة على قراءة اتجاهات السوق بوضوح ولذلك، يبدو توقيت نقل البورصة مثالياً؛ فهو يتزامن مع وصول السوق إلى مرحلة تحتاج فيها إلى جهة تنظيمية متخصصة تتعامل مع العقار باعتباره أصلًا اقتصادياً قابلًا للتداول والتحليل والقياس. ولكن … لماذا الهيئة العامة للعقار؟
لأن الهيئة تمتلك مظلة تشريعية وتنظيمية واسعة تشمل الإشراف على الممارسات العقارية، وتنظيم الوساطة والإعلانات، وتوحيد قواعد البيانات والمعايير المهنية. وهذا يجعلها الجهة الأكثر قرباً للسوق والأقدر على فهم حاجاته إن وجود البورصة تحت إشراف الهيئة يعني توحيد المرجعية التنظيمية والتشريعية وتسريع تحديث الأنظمة وفق تطورات السوق وضبط عمليات التداول والإعلانات والوساطة وتقليل التباين في البيانات ورفع دقة المؤشرات العقارية.
وبذلك، يصبح انتقال البورصة خطوة منطقية لتشكيل “منصة مركزية” تُدار بمعايير شبيهة بأسواق المال، ولكن بما يتناسب مع طبيعة الأصول العقارية.
ولن نبالغ ان قلنا ان الأثر التنظيمي لتلك الخطوة يتجاوز نقل المهام والخطوات التنظيمية ذلك ان هذا التحول سيؤدي إلى إعادة صياغة البيئة القانونية للممارسات العقارية، بدءًا من توحيد الأدلة التنظيمية، وصولاً إلى تعزيز الامتثال والحوكمة ورفع مهنية الوسطاء والمطورين. كما يسهم في تقليل التداخل بين الجهات، ويمنح السوق مرجعية واحدة أكثر دقة وتفاعلاً مع العمليات اليومية للتداول والتطوير والتسويق.
ولا تقتصر أهمية الخطوة على الجانب التنظيمي، بل تمتد إلى الاقتصاد الكلي، حيث ينتظر أن تحدث نقلة واضحة في عدة جوانب من أهمها رفع مساهمة القطاع العقاري في الناتج المحلي قمع وجود بيانات دقيقة ومنصة تداول موحدة، تتسع دائرة النشاط الاقتصادي المتعلق بالعقار، بدءاً من التمويل والإنشاءات وحتى الخدمات اللوجستية وسلاسل الإمداد، ما يدفع بمساهمة القطاع نحو مستويات أعلى وزيادة كفاءة رأس المال إذ إن توافر البيانات الشفافة يقلل الهدر الاستثماري الناتج عن قرارات مبنية على معلومات غير مكتملة. وستتجه رؤوس الأموال إلى المشاريع ذات الجدوى الحقيقية، ما يرفع كفاءة توزيع الاستثمارات داخل المدن والمناطق.
إضافة إلى تحسين بيئة الأعمال المتمثل في سرعة الإجراءات ووضوح التنظيمات واللذان سيعززان تنافسية السوق السعودية مقارنة بالأسواق الإقليمية، ويجذبان كيانات استثمارية إقليمية ودولية تبحث عن بيئة تداول ناضجة وآمنة إضافة إلى فتح الباب لمنتجات استثمارية جديدة إذ يمثل وجود البورصة العقارية تحت مظلة الهيئة فرصة لبناء سوق استثماري أكثر عمقاً وتنويعاً، من خلال ظهور أدوات استثمارية حديثة ومنها على سبيل المثال الملكية الجزئية للوحدات العقارية ومنتجات تداول عقارية قصيرة وطويلة الأجل وتقييمات فورية معتمدة وتداولات مؤسساتية مبنية على معايير مالية واضحة إن هذه الأدوات ستزيد سيولة السوق وتمنح المستثمرين خيارات أكثر مرونة من نموذج “الشراء الكامل” التقليدي وجذب الاستثمارات المؤسسية كما أن رفع مستوى الشفافية سيقلل المخاطر، وهو ما يشجع صناديق الاستثمار، والمحافظ المؤسسية، والجهات الدولية على دخول السوق السعودية بثقة أكبر ناهيك عن تمكين المستثمر الفرد حيث سيصبح بإمكان المستثمر العادي قراءة السوق من خلال بيانات رسمية ومعتمدة، دون الاعتماد على الاجتهادات أو المعلومات غير الموثوقة، ما يزيد من “ديمقراطية الاستثمار العقاري” وستعمل هذه الخطوة على دعم التمويل العقاري إذ مع توافر بيانات دقيقة، ستتمكن البنوك وشركات التمويل من تطوير منتجات تمويل أكثر دقة ومرونة، مما يقلل الحاجة إلى المخاطرة ويخفض تكاليف التمويل.
وبالرغم من كل تلك الإيجابيات لابد من الإشارة إلى عدة تحديات التي تستحق المعالجة والتي نؤكد اننا على يقين من انها لم تغب عن ذهن القائمين على عملية الانتقال فبرغم المكاسب المتوقعة، إلا أن نجاح التجربة يتطلب جاهزية تقنية عالية للربط بين الأنظمة وتدريب وتأهيل الوسطاء والمطورين على آليات التداول الجديدة وبناء نماذج موحدة للبيانات تعتمد عليها الجهات التمويلية والاستثمارية وضمان دقة التحديث اللحظي للمؤشرات والأسعار.
إن نقل البورصة العقارية من وزارة العدل إلى الهيئة العامة للعقار خطوة استراتيجية تتجاوز كونها إجراءً حكومياً، لتفتح الباب أمام مرحلة جديدة من التنظيم والشفافية والنضج الاقتصادي، إنها خطوة تمنح السوق العقارية السعودية فرصة لتأسيس بيئة تداول احترافية، تجذب المستثمرين، وتوسع قاعدة المنتجات الاستثمارية، وتضع العقار على طريق أن يكون أحد أهم أدوات تنويع الاقتصاد الوطني إنها بداية مشهد عقاري أكثر وضوحاً… وأكثر قدرة على النمو… وأكثر جاذبية للاستثمار المؤسسي والفردي على حد سواء.
صحفي اقتصادي